لدى إطللاقه عام 2004، كان فايسبوك شبكة تواصل بين طلاب جامعة «هارفرد» الأميركية، أسّسها مارك زوكربيرغ مع رفاقه، قبل أن يبلغ اليوم أكثر من مليار مستخدم حول العالم. صمد الموقع الأزرق في وجه التحدّيات مع ظهور شبكات مماثلة، بفضل قدراته المتنامية على الإبداع وتسهيل طريقة الاستعمال وتجاوبه مع رغبات المستخدمين، لكن مع الوقت، أفرز فايسبوك صناعة يمكن تسميتها «صناعة الوهم». مفهوم يتجلّى في جوانب اجتماعية وسياسية ونفسية يمتطيها كثيرون لخلق حيّز خاص بهم على صعيد التقويم الشخصي والموضوعي الذي فرضته التقنيات الفايسبوكية، وقد تبيّن لاحقاً أنّها غير مبنية على أسس واقعية ومنطقية. في دراسة أجرياها عام 2011، توصل الباحثان أشويني نادكارني، وستيفان هوفمان إلى خلاصة مفادها أنّ فايسبوك يؤمن حاجتين إنسانيتين هما «الحاجة إلى الانتماء، والحاجة إلى مثيل الذات». وهنا يكمن الاختلاف بين العالمين العربي والغربي. في المجتمعات الغربية، نرى طغياناً للثقافة الفردانية، إذ يُستخدم الموقع بغية تشارك الإنجازات والمشاريع المستقبلية مع الغير، في ظل ميل إلى طرح القضايا الخلافية ومناقشتها، بينما تسري في العالم العربي والآسيوي واللاتيني الثقافة الجماعية، حيث يهتم الفرد أكثر بمصالح وهموم الجماعة والقضايا الكبرى التي تطغى على معظم النقاشات.

يعود هذا السلوك برأي الباحث في الخصوصية الرقميّة حمزة حرقوص إلى تكوّن ثقافة لدى البعض «وخصوصاً الذين يتبعون الديانة الإسلامية» تتركز على أهمية «مصلحة الأمة» على حساب الأهداف الفردية. رغم هذا الإحساس بالانتماء ووضع همّ الجماعة على قائمة الأولويات، إلا أنّ الواقع يظهر انسلاخاً جوهرياً بين العالم الافتراضي والواقع، وخصوصاً مع تنامي شبكات التواصل الاجتماعي. فقد يتبيّن أنّ الناشطين على الصفحات الافتراضية ليسوا هم أنفسهم قادة التغيير الفعلي على الأرض، ولا حتى المتشدقين بحمل القضايا ودعمها. هكذا، يبدأ تكوّن الوهم لدى هؤلاء بظنّهم أنّهم أبطال يرسمون الواقع الافتراضي مع الالتفات إلى أنّ هذا التقويم ليس بالضرورة مبنياً على أساس محتوى متميز، لا بل سطحي أصبح معمّماً في هذه الأوساط. هذا الوهم ناشئ بحسب حرقوص من قدرة هؤلاء على جذب الاهتمام نظراً إلى العدد الكبير من الأصدقاء الافتراضيين والحقيقيين على صفحاتهم.
جرت العادة على الشبكات الاجتماعية على تقويم الأشخاص على أساس مدى تغلغلهم فيها و«هذا ليس ناجعاً بالضرورة» يقول حرقوص لـ«الأخبار»، مستشهداً بيوتيوب، حيث يمكن البناء على عدد المعجبين بفيديو ما منشور عليه لتقويمه، لكن الأمر مختلف مع الموقع الأزرق بسبب تواصل المستخدمين في ما بينهم على أساس «مبدأ التكتلات». يلتقي عدد من الأصدقاء، ومعظمهم افتراضيون، سياسياً واجتماعياً، فتنمو التكتلات وتتكثف، لكن تبقى منغلقة إزاء غيرها وينحصر التواصل في ما بينها، وتبدأ بإغداق «اللايكات» على بعضها بعضاً ليس بناءً على تقويمها لنوعية المحتوى، بل من مبدأ المجاملة.
مع تصاعد الشعور بالوهم، يبدأ اللهاث وراء الصداقات واللايكات. لهذا نجد أي طامح إلى البروز يلجأ إلى هذه الشبكات، حيث ينتظره ناشطون آخرون لاهثون وراء توسيع لائحة متابعيهم ولو كانوا أشخاصاً وهميين. وتبقى الروابط هنا بعيدة عن المحتوى المقدّم الذي غالباً ما يكون سطحياً، لكن الأهم في هذه التكتلات هو عجزها عن التواصل مع غيرها بسبب ما تحتاج إليه هذه العملية من ثقة عالية بالنفس في المحاججة والمواجهة الجماعية كما يشرح الباحث. لذا، يصبح الانغلاق أمراً واقعاً، وخصوصاً مع استخدام لغة المعاداة وأبلسة الآخر لتقوية الذات، وبالتالي يصبح مبدأ التلاقي بين هذه الشبكات مستحيلاً.
أمام هذا الوضع المأزوم، يرى حرقوص أنّ الخروج من هذه المعضلة يكمن في إحداث تغيير في هذه التقنيات لتسري بالتالي التغييرات على صعيد المعايير السائدة أي عبر محاولة خلق نظام «سمعة إلكترونية» (e-reputation) أوتوماتيكي يقوّم من خلاله المحتوى على أساس موضوعي، إضافة إلى التركيز على أنّ عدد المعجبين ليس بأهمية هويّتهم وسمعتهم، عبر الدفع أكثر باتجاه التعبير عن جوهر المحتوى. مع ذلك، تحول صعوبات جمة دون تحقيق هذا الأمر، أهمها على الصعيد الربحي. لو حصلت هذه التعديلات، فسينخفض حجم الفئة المستهدفة مادياً بما أنّ الموقع يعمل دوماً على خلق سهولة في الاستخدام. طبعاً، هذا الانغلاق مرشح للبقاء مع الخضوع لرغبات المستخدمين في الحماية والخصوصية. وهنا، لا ننسى الضجة التي أثيرت عندما ألغى الموقع الأزرق الخصوصية ليعود ويعتذر مؤسسه من «الزبائن»، ويصبح اليوم أكثر انغلاقاً مع تعديل الإعدادات (settings) التي تتيح التحكم أكثر في هذه الخاصية.

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3335399/



فكّريني إنت مين؟

في عام 2010، أجرى أستاذ الأنثروبولوجيا التطورية في «جامعة أوكسفورد» البريطانية روبن دونبار دراسة أظهرت أنّه بيولوجياً «لا إمكان لتذكّر أسماء ووجوه أكثر من 150 شخصاً في فترة واحدة»، في محاولة لتحليل الحسابات الفيسبوكية التي تملك لائحة طويلة من الأصدقاء. وفيما شدد الباحث على أنّ هذا الأمر ينطبق على مختلف المجتمعات و«لم يتغيّر مع مرور الوقت»، أشار إلى أنّ نتيجة الدراسة تؤكد أنّ عدد الأصدقاء الافتراضيين لا يبنى على قاعدة الروابط القوية «بل على مبدأ الربط الضعيف الذي لا يحتاج إلى جهد عقلي للمحافظة عليه».