يغامر أي فنان مسرحي في عرض عمله الفني في موسم الصيف حيث تخلو المسارح مقابل احتشاد المسابح والملاهي بالناس. أما بالنسبة إلى جو قديح (1967)، فعرض مسرحيته الجديدة Medley ليس مجازفة نظراً إلى النجاح الجماهيري الذي حققه على مدى ستّ سنوات متتالية. لقد أصبح ظاهرة فنية في عالم الـ«ستاند آب كوميدي» المُمسرح، إذا صحّ التعبير. جذب اليه شرائح اجتماعية وعمريّة مختلفة في عروضه بسبب أفكاره النقدية اللاذعة على الصعيد الاجتماعي وأحياناً السياسي، في قالب كوميدي ساخر ينبض بتفاصيل كاريكاتورية مضحكة عن حياتنا اليومية. عرض Medley أو «خليط» (في اللغة الموسيقية) كما يشير العنوان، يقدّم مجموعة مَشاهد اختارها قديح من مختلف عروضه الخمسة الأخيرة ( «لو جوكون»، «أنا»، «أشرفية»، «حياة الجغل صعبة»، «فيلم سينما») للقادمين من المهجر الذين لم تتسنَ لهم الفرصة بعد لمشاهدة أعماله.
مع ذلك، فإنّ من شاهد عروضه السابقة لا يفقد المتعة في استعادتها. في القسم الأول من العرض، يجعل قديح من منطقة الأشرفية عيّنةً من لبنان الذي يعاني من أزمة تشوّه في هويته المعمارية وغياب التنظيم المدني مقابل أزمة إنسانية في التعامل مع العاملات الأجنبيات في المنازل وفي عملية قمع بطيء للمواطن اللبناني المحبط الذي تضيق به الدنيا. في جملة ساخرة تخبّئ معنى تراجيدياً معاصراً، يقول قديح إنّ بطل الأشرفية تحوّل الى حارس أمن يبحث في جزادين النساء على باب «المولات». ولعل القسم الأول من العرض هو الأقوى لناحية المضمون النقدي الموجع الذي يعكس حالتنا المتقهقرة رغم قهقهاتنا كجمهور نغطّي بها توتّرنا حين نرى أنفسنا عراةً في مرآته. يواصل قديح عمليّة تعريته للأدوار الاجتماعية النمطية في المجتمع اللبناني مثل رجل الدِّش Dish man و«الدكري» أي الدركي والـMaitre Nageur. كذلك يطرح بسخرية مواضيع عدّة أبرزها موضوع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت الذي يعكس خيبة الأمل ويتحوّل الى فسحة للخيانة الزوجية.
بدت المشاهد متفاوتة من حيث المضمون والمعالجة. بعضها يحوك نسيجاً محكماً يولد قصة تسمح بتراكم معانٍ عميقة لتأتي النهاية أو «القفلة» محكمة ومؤثرة، كما هي الحال في المشهدين المذكورين أعلاه. وأحياناً، تقتصر المشاهد على استطراد في الأفكار المضحكة المتوالد بعضها من بعض من خلال كلمة. وفي هذه الحالة، تأتي «القفلة» على شكل نكتة غالباً ما تكون لعباً على الكلام فقط. وعلى عكس عروض قديح السابقة التي تقوم على فكرة محدّدة، يرتكز هذا العرض على «تشكيلة» من الاسكتشات التي لم تحمل الأفكار الأساسية للعروض المسرحية التي تنتمي اليها (ما عدا القسم الأول المذكور)، وكان من الأفضل لو حافظ قديح على روحية هذه العروض وأفكارها الأساسية بدلاً من انتزاع إسكتشات تحدّثت عن أفكار ثانوية فقط لهذه العروض.
ككاتب وكممثّل، يمتلك قديح قدرة هائلة على نقل الصورة إلى الجمهور بشكل مفصّل ودقيق، فيستغني في الكثير من الأحيان عن الفضاء المسرحي ليرسم لنا فضاءً آخر في مخيّلتنا. هذه الموهبة تسهّل عليه عمليّة السيطرة المحكمة على الجمهور الذي يتفاعل معه بسهولة من دون أي تكلّف، ويعدّ ذلك ورقة رابحة لقديح وللجمهور معاً. وإذا شعرنا بثقل جسده على خشبة المسرح في بداية العرض (مع أنّه يبدو خفيفاً حين يلجأ الى تقنية الإيماء في الحركة)، وبأنّ مساحة التعبير الصوتي لديه محدودة بعض الشيء، إلا أنه سرعان ما يُنسي الجمهور كل هذه العيوب ويأسره بخفّة ظلّه، وسرعة بديهته، وحضوره، وحنكته في كتابة النص، فيحوّل بذلك الضعف الى علامة فارقة في أسلوب أدائه، وهذا الأمر يتطلّب ذكاءً حاداً من الممثل.



Medley: 20:30 مساء اليوم ــــ «مسرح مونو» (الأشرفيّة، بيروت) ــ للاستعلام: 01/202422