لن نأتي بجديد لو قلنا إنّ الإعلام السوري ما زال يعيش في مجاهل مدينة افتراضية بنى جدرانها نظام تقصّد إقصاء الجمهور وعزله عن حقيقة ما يدور حوله. رغم ثورة الاتصالات ودخول عاصمة الياسمين السنة الثالثة من الأزمة محمّلةً بقوافل الشهداء ونعوشهم، لا تزال البرامج الصباحية على الشاشات السورية تحكي لنا عن اليوم العالمي للطقس، والعدائية عند الأطفال، ولا تبخل بفقرات ترفيهية منوعة تكاد تصل إلى آخر صرعات الأزياء! أما وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، فتفرد صفحاتها للتطبيل والتزمير للحكومة ومنجزاتها والتصريحات الطنّانة للسادة الوزراء عن توفير فرص العمل، والمساكن المؤقتة للمهجرين، والأدوية المفقودة التي يجري توفيرها والمواد الغذائية والمحروقات التي توفَّر للمواطن دائماً!
طبعاً، فضلاً عن فضيحة «المحلل السياسي» المصري صاحب الثلاثة وعشرين ربيعاً أحمد سبايدر الذي أُفردت له ساعتان من البث المباشر على الفضائية السورية كي يدّعي بطريقة المهرج البائس أنه يمتلك معلومات تفضح أجهزة الاستخبارات العالمية من دون أن يأتي إلا بترهات وكلام يثير الشفقة! تلك باختصار حال الإعلام السوري اليوم. لكن مهلاً، فقد أُعلن منذ فترة نية «الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون» لإطلاق محطتين جديدتين يفترض أن تكونا مختلفتين جذرياً، هما «عروبة» و«تلاقي» (الأخبار 12/9/ 2012). وبالفعل، باشرت «تلاقي» بثها التجريبي منذ فترة، محرزةً خطوة إيجابية في لفت النظر من خلال فواصل مميزة تنطلق من فكرة بثها من أقدم عاصمة في التاريخ، مركّزةً على وجه الجمال وإمكانية التلاقي بين شرائح الشعب السوري مهما تباعدت الأيام (راجع المقال أدناه).
أما بالنسبة إلى «عروبة»، التي يبدو واضحاً الخيار الخاطئ لاسمها الذي يذكّر بشعارات حزب «البعث» (مصادر في المحطة أشارت أنها ستكون موجّهة إلى العالم العربي كله)، فقد صُمِّمت في بداية الأمر لتكون محطة إنقاذية إن حوصر النظام وأُنزلت القنوات السورية عن الأقمار الصناعية العربية. تنطلق المحطة الجديدة لتكون نسخة طبق الأصل عن الفضائية السورية. لكن بعد إنزال الأخيرة عن الأقمار الصناعية، سرعان ما تمكنت السلطات السورية من إعادة بثها على ترددات جديدة، والدخول في دعاوى قضائية للفصل في هذه القضية، على اعتبار أن هناك عقوداً مبرمة مع شركة «نايل سات» الخاصة، ولا سيما أن إدارة هذه الأخيرة سبق أن أكّدت في حديث مع «الأخبار» تعاطفها مع المحطات السورية مما تعانيه من محاولات إغلاق المنافذ في وجهها؛ إذ بقي الفضاء رحباً لقنوات تعادي النظام السوري، وتدعي زوراً حرصها على الشعب.
هكذا، صار إطلاق قناة «عروبة»، مختلفاً عن الصورة الإسعافية التي كان يُفترض أن تضطلع بها، وصار واجباً إعطاؤها هوية بصرية، والإعداد لدورة برامجية قد تكون كوادر التلفزيون عاجزة عنه رغم تعدادها الكبير. على أي حال، لم تنطلق المحطة حتى الآن. وتبدو غير مجدية محاولة الخوض عميقاً في الهدف من إطلاقها، لكن ترد أخبار شبه مؤكدة عن رصد مبلغ كبير قيل إنّه يصل إلى 18 مليون دولار خُصِّص لإعادة تأهيل الفضائية السورية. حتى إنّ بعض المصادر ترجّح إمكانية توقف الفضائية السورية عن البث لمدة شهرين لغاية الانتهاء من تجديد الاستوديوات وترميم الفكر الذي تقوم عليه واعتماد أساليب جديدة للخطاب الإعلامي. طبعاً، يمكن وزارة الإعلام السورية الوقوع في هذا الخطأ القاتل وإيقاف الفضائية، وخصوصاً أنها تعيش حالة تخبط واضحة. فقد سبق لها إيقاف بث القناة الأولى فترة من الزمن. وبعد مرور وقت قصير، انتبهت الإدارة إلى أنّها أطاحت المحطة التي يفترض أنها تأسيسية لأي تلفزيون رسمي، وذاكرة حاضرة لا يمكن أن تغيب، فأعادتها إلى البث. بين هذا وذاك، يزداد الحديث عن «هيرو إعلامي» جديد لا يُرَدّ له طلب ويتدخل في كل شاردة وواردة في الإعلام السوري، وربما أخذته الحماسة في بعض الأحيان لتصفية حساباته الشخصية مع من يعدّهم منافسين أو حتى أعداء. إنّها مذيعة تلفزيون «الجزيرة» سابقاً لونا الشبل. صاحبة الإطلالة المميزة ظهرت في حوار مطوّل على تلفزيون «الدنيا» في بداية الأزمة، عبّرت من خلاله عن ولائها للنظام، وفضحت تجاوزات المحطة القطرية التي غادرتها قبل فترة من اندلاع الانتفاضة السورية، ليرفع هذا الحوار أسهمها في الداخل السوري. بعد توليها منصب مديرة المكتب الاعلامي في القصر الجمهوري، صارت الشبل تتدخل في عمل غالبية وسائل الإعلام السورية لتبلغ حدّ إيقاف مراسل أي محطة داخل الأراضي السورية بتهمة أنه غير مهني، أو يعمل على تزوير المعلومات. هكذا، عادت إلى الواجهة صورة الوزير السوري السابق محسن بلال وسياسته التي عرف عنها الفشل، لكن بنسخة معدّلة بعض الشيء وبصلاحيات أوسع.