كان الرأي العام يحاول أن يهضم ما حدث في عرسال، والمناورات بدأت، لتحويل جريمة منظمة إلى وجهة نظر ممكنة في مملكة الطوائف. في الوقت نفسه، كان جورج صليبي يجمع ضيوفه في «نادي الصحافة» في فرن الشباك، لحلقة جديدة من «الأسبوع في ساعة» على تلفزيون «الجديد».
وحدها المصادفات أرادت للحلقة أن تخوض في الجدل الدائر حول «قانون الزواج المدني الاختياري»، فإذا بها تختصر كل فصول التراجيكوميديا الراهنة. بدأت المهزلة مع هياج أباطرة الجمهوريّة، وحربهم لتناهش الحصص البرلمانيّة وتوزيعها بين الطوائف. ولم يكن ينقصنا سوى أن يشبك الإكليروس على الدبكة، ملوّحاً في الهواء بمنديل فتاويه الدمويّة، لمنع النقاش حول بناء الدولة، باسم الشرائع السماويّة. وهنا جاءت مقتلة عرسال لتقلب المهزلة إلى مأساة وتعطّل أي امكانيّة كلام أو نقد أو تفكير.
وزّع صليبي ضيوفه مساء الأحد على صفّين متواجهين، كما في المبارزات القتاليّة القديمة: من جهة رجال دين من 3 مذاهب، ومن الأخرى ممثلو المجتمع المدني. غابة من الرجال، وبينهم امرأة واحدة (ريما إبراهيم) تحاول أن تقول إن الزواج المدني بالنسبة إليها مدخل إلى المواطنة، أي إلى إلغاء الوسيط بينها وبين الدولة. الأب عبده أبو كسم أنزل الحرم على كل ما يتحرّك من حوله من دون الاستناد إلى أي نصّ، وراح يعرض على الخوارج «صكوك غفران» مقابل عودتهم إلى السراط المستقيم. (لعلّه لم ينسّق مع غبطة البطريرك بشارة الراعي الذي رفع السقف أعلى من قدرات جمهوريّة الموز، قبيل وصوله إلى بكركي، و«كبّر الحجر» داعياً إلى الزواج المدني الإلزامي). أما جورج، فلم يكن «مركّز قوي» تلك الليلة. المفتي الجعفري الشيخ أحمد طالب، صاحب الخطاب الأقرب إلى العقلانيّة بين رجال الدين الحاضرين (ليت «ويكيليكس» لم تكن)، أراد توسيع النقاش إلى النزاع حول القوانين الانتخابيّة، فما كان من جورج سوى أن قاطعه قائلاً: «شو بدّي منها» الآن القوانين الانتخابيّة؟
دعوا جرجي في براءته، لا تقولوا له إن تلك الحلقات الشيطانيّة مترابطة. حين تبني النخب السياسيّة القوانين على أساس مصالحها الضيّقة... حين يملي مفتي الجمهوريّة على نواب الشعب وممثليه سلوكهم تحت طائلة الذبح، فلا يعرف إمام جامع بيضون اللطيف كيف يدافع عنه... حين يتألق دكتور القانون الكنسي بمواقفه القروسطيّة المتخلّفة عن تطوّر كنيسته في العالم... هل من المستغرب أن يتلطّى قتلة عرسال خلف طائفة بأمّها وأبيها؟ لم يدرك جورج صليبا أن دروس حلقته ستكون بهذه القسوة. «تجّار الهيكل» على أنواعهم («بيت أبي للصلاة وقد حوّلتموه مغارة لصوص»، إنجيل متّى)، سمحوا للدولة اللبنانيّة أن تركع على أبواب بلدة لبنانيّة عاجزة وذليلة. كل الذين يعيقون التقدّم نحو القوانين المدنيّة في لبنان اليوم، على يدهم شيء من دماء جنديي الجيش اللبناني اللذين نحرا شرعاً في عرسال.