هو أمر عاديّ أن تشمَّ رائحة الألوان في معرض للرسم، لكن الرائحة التي تنبعث من معرض Badroom لناديا صفي الدين (1973) قوية وضارية إلى درجة تذكرنا برائحة دم لم يمضِ وقتٌ طويل على تخثُّره. لا يأخذنا ذلك إلى مجزرة أو مسلخ واقعي طبعاً، لكن الداخل إلى المعرض لا ينجو من صورة مجازية مثل هذه. صورة تتعزز أكثر بالمزاج الضاري للرسامة اللبنانية، وسخائها الزائد في استخدام الألوان التي تتكتَّل على سطوح اللوحات كما لو أنها طينٌ أو صلصالٌ من النوع المستعمل في النحت عادةً. لا تريد الرسامة أن تُنجز منحوتات بالطبع، لكن النتواءات النافرة والتضاريس العنيفة وغير المعتنى بأن تكون جميلة ومتوازنة تقوّي مذاقات النحت، وتُضعف بديهيات اللوحة التقليدية، ويتحول الرسم إلى ترجمة مباشرة لمزاج تعبيري لا تكترث صاحبته إن شاب علاقتها باللوحة نوع من الفظاظة اللونية.
الرسامة المولودة في داكار والمقيمة بين بيروت وبرلين تُعامل أعمالها بفظاظة فعلاً. لا مكان هنا إلا للغضب الداخلي الذي يظهر على شكل فورانات ولطخات لونية ضخمة وعريضة، حيث يمكن القول ـــ من دون مجازفة كبيرة ـــ إنّ الألوان مُستخدَمة بالكيلوغرامات والليترات، ومنقولة من عبواتها إلى اللوحات باليد لا بفرشاة عادية، وهو ما يجعل المَشحات اللونية المهذّبة والرقيقة مستبعدة على نحو قاطع عن لوحات معرضها الجديد في «غاليري أجيال». قد يذكرنا ذلك بوجوه مروان قصاب باشي أو باللطخات العريضة لأوسكار كوكوشكا أو بممارسات أخرى مجلوبة من التعبيرية الألمانية، لكن هذه التأثيرات تتحول إلى ممتلكات شخصية يمكن أن تُضاف إلى احتكاك الرسامة بفنون وممارسات معاصرة، وانتمائها إلى الفضاء المستجدّ لعدد من مجايليها اللبنانيين الشباب الذين باتوا على اتصال بما يحدث في الخارج أكثر من اتصالهم بأسلافهم في الداخل.
التحدي الأهم في هذه التجربة أنها لا تتحقق في التجريد الهندسي أو الغنائي. التجريد أسهل من أجل احتواء هذه الحُمَّى اللونية التي يمكن تكتيلها في جهة ما من اللوحة، وخلق بؤر أخرى متناظرة أو معاكسة لها، لكنّ صفي الدين لا تريد أن تسهّل الأمر على نفسها، وتفضّل تفريغ حممها في الوجوه والأشكال البشرية. ما نراه هو تشخيص من نوع خاص، حيث الرسامة مشغولة برسم ملامح واضحة وبالتنكيل بهذه الملامح في آن واحد. تفعل ذلك مرتين في «أوتوبورتريه» لها، وفي ثلاثة بورتريهات أخرى، واحد منها للممثلة اللبنانية رينيه ديك، والآخران لشوبان وشوستاكوفيتش. هكذا، تُفصح الرسامة عن موهبتها الثانية كعازفة بيانو محترفة. استحالة تعرّفنا على أصحاب هذه البورتريهات لولا أن أسماءهم موضوعة عليها، تكشف شيئاً آخر، وهو أن الصيغة النهائية للوحة قد لا تكون هدفاً وحيداً للرسامة طالما أنها تنعف الوجه أو الشكل البشري الذي ترسمه بدلاً من إتقان رسمه.
أحياناً، يكون الوجه وحيداً كما في البورتريهين الشخصيين، وأحياناً يحاضر مع أجزاء أخرى من صاحب الوجه كما في Naked و!Aaah، أو يتجاور عدد من الوجوه في لوحة واحدة كما في On the Platform وAngry Me وLiving Room. في الحالات الثلاث، نرى الممارسات ذاتها التي تُظهر مزاجاً قلقاً وغاضباً. المعجم اللوني المكتفي بالأخضر الداكن المكسور بلون أو لونين من الفصيلة نفسها، يزيد من قتامة الانطباعات المنبعثة من الأعمال المعروضة. لوحة رينيه ديك هي الوحيدة التي يتدخل فيها قليل من الأبيض (غير النقي) والأحمر والأزرق، لكن التشطيبات الحادة التي تتعرض لها الطبقات اللونية تحوّل الإشراقات الطفيفة إلى «هباء» لوني ثلاثي الأبعاد بفضل سُمك الألوان نفسها، حيث يتسنى لنا أن ننسى التشخيص الموجود في اللوحات، ونأخذ ذلك كله على محمل التجريد.



Badroom: حتى 16 شباط (فبراير) الحالي ـــ «غاليري أجيال» (الحمرا ــــ بيروت). للاستعلام:01/345213