جداريّتان فقط ضمّهما المعرض الأخير الذي أقامه الفنان السوري غسان النعنع أخيراً في «غاليري كامل» في دمشق. إلا أنّهما تبدوان لوحات عديدة نظراً إلى الغنى الذي تمتعتا به، إذ تكتنفان شعريّة وشفافية مفتوحتين على الرؤى الفلسفية والصوفية التي تحيلنا على عوالم جبران خليل جبران التشكيليّة، يوم تأثر بأعمال الرسّام والشاعر الكبير وليام بليك، ذي المنحى الرومنطيقي الذي ازدهر في القرن التاسع عشر، سواء في إنكلترا مع جون كيتس ولورد بايرون، أو في أميركا مع وليم وردزورث، الذي اعتُبر جبران ضمنه. إذ تأثّر بهذه المدرسة العالمية التي سادت آنذاك، مضيفاً إلى كتاباته الفلسفية والصوفية لوحته التي تكمل رؤياه الخاصة للحياة والإنسان. لدى مشاهدتنا لوحتَي غسان النعنع الجداريتين الضخمتين، نشعر بأنّه امتداد لتلك المدرسة، علماً بأنّه لا يقلّد جبران البتّة، بل يمضي في الخطّ الرومنطيقي التعبيريّ المشار إليه. المعرض هنا بالاتجاه الصوفي الذي لمع فيه جبران الرسّام كحنين إلى البراءة الأولى والارتقاء الدينيّ الصوفيّ المتماثل، سواء جاء من الهند أو من الفنّ العربيّ القديم أو من أي مكان آخر في العالم. مع التأكيد على أنّ «الثورة الجبرانيّة» لا تقف عند حدود التصوّف، بل تتعدّاه إلى الإشراق الإنساني، النثري والشعريّ، الغالب في مؤلّفاته، كما في العوالم الشعريّة لالياس أبو شبكة وخليل مطران وأحمد شوقي وأبو القاسم الشابي، وهذا الأخير كان الأكثر تأثّراً بجبران الثائر والرومنطيقي.
هل أفاد غسان النعنع من مجمل هذه المناخات في زمن الحداثة ومذاهبها التشكيليّة المختلفة والمتعدّدة؟ إذ يبدو شديد التغرّب عن زمنه الراهن، المادّي والعقلانيّ، مؤثراً العودة إلى الرومنطيقية القديمة، حتّى إنّه ينأى عن السياسيّ المباشر، وعن العنف والجنون اللذين يطبعان المرحلة في الواقع والفنّ على السواء، ملتزماً بالدلالات الفلسفيّة العميقة التي تشدّد على حريّة الإنسان وكينونته وارتقائه الروحيّ. فهل خاض المغامرة الكبرى حين جمع رؤاه في جداريتين يتيمتين ولم يوزّعها على عشرين أو ثلاثين لوحة صغيرة الحجم؟
يغوص النعنع في الأبعاد الدينيّة الحقيقية، مثلما فعل جبران خليل جبران يوم ثار ضدّ الكنيسة ورجال الدين وأعلن حبّه للمسيح «ابن الإنسان»، نابذاً التعصّب والطائفيّة وهو القائل «ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين». النعنع يحمل بداخله ثورة شبيهة، عقيدةً وتعبيراً فنّياً، مع التأكيد على عدم تحميل جداريّتيه الرائعتين أحمال هذه المرجعيّات كلّها، بل هي محاولة لتقريب الصورة، مع التأكيد على عدم تحميل هذا الفنان كلّ تلك التراكمات، إذ استلهم الروح الجبرانيّة بأسلوبه الخاص، ما يُبعده حتماً عن التقليد.
لا يقلّد جبران البتّة، بل يمضي في الخطّ الرومنطيقي التعبيريّ


لا يرى غسان النعنع بعينيه بل بعمق الرؤيا والإحساس باللون وفيه شميم من أمل، فجداريّتاه مخالفتان للسائد اليوم في المعارض الفنّية، فهل نحسبه خارج عصره؟ بلى، هو كذلك، متجاوزاً التأثيرات الراهنة في زمن الحداثة وما بعدها، معتمداً تقنية الزيت على قماش، وكل جداريّة تتضمّن ثلاثة مشاهد منفصلة-متصلة: المرأة «الخاطئة» التي لم يستطع أحد رميها بحجر، وبمحاذاتها المسيح في عظة الجبل، ويبدو جبران في الأسفل قارئاً من كتابه، وإلى اليسار العشاء السرّي. وفي اللوحة الثانية جبران جالسٌ في الأعلى وسط الألوان المشعّة، محاطاً بهالة رماديّة وحاملاً كتاباً أبيض، فيما ينظر إليه الناس الموجودون في الجدارية عند مستوى أدنى ويرمقونه بنظرات ريبة. عمل قائم على روحانية عالية معبّر عنها بتدرّجات اللون الأبيض. تصوّرات دينية مضاءة بالنقاء والصفاء اللذين يجمّدان الزمن. نورانيّة مشعّة في لوحة ساكنة. أفكار وجماليات وأسلوب مثير للدهشة ومشاعر الحب والدفء والنور الصوفيّ الطاغي.