«كَثُرَتْ أمانيُّ الرجال ولم تَزَلْ متوسِّعاتٍ والزمانُ يضيقُ»: يصلح بيت الشريف الرضيّ الذي اختارته الشاعرة اللبنانية هدى فخر الدين في رسالتها للسنة الجديدة أن يكون عنواناً جديداً-قديماً لكل حقبة أو سنة أو مرحلة جديدة نؤرّخ بها لحياتنا العامة في العالم العربي حيث تشتبك الثقافة بالسياسة وتتداخل القضايا الكبرى مع الخبز اليومي، فيضيق الزمان على أوطاننا النازفة من قلبها فلسطين، آخر قضية كولونياليّة في التاريخ يضع فيها الغرب كل آلته العسكرية والاستكبارية وعدّته الثقافية والإعلامية في مواجهة ثلّة من الأبطال يواجهون باللحم العاري ويحفرون الجبل بالإبرة ونفق الهروب من السجن بملعقة الطعام لكي يتّسع الزمان قليلاً. وما زالت أوطاننا الأخرى تقتلنا بطوابير الخبز وجزمة المستبد والحلم المستحيل بساعات معدودة من الكهرباء أو استعادة راتب التقاعد من زبانية المصارف. كما لم تسلم أوطان أخرى من الحروب والتقسيم والوجود العسكري الأجنبي المباشر على أرضها. لكن إذا انطفأت الكلمة، حلّ الموت الذي لا يفعل هؤلاء الشعراء والروائيون والأدباء والمبدعون سوى مقاتلته في ما يكتبونه ويبدعونه كلّ عام، مستعيدين جملة درويش الشهيرة: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل، نربّي الأمل»: لا بدّ من خيطٍ للأمل ومن ضوءٍ في نهاية النفق، لا بد من وردة صعبة في زمان لشوك العربيّ وفي قلب الجغرافيا التي تنزّ دماً وقهراً وخيبات. إنها رسائل من كوكبة من المبدعين لعامٍ جديد يحمّلونه فيها آمالهم وأحلامهم وحتى خيباتهم ننشرها في «كلمات» لتبقى شعلة النار مشتعلة في إبداعاتهم، ولئلا يغادر الشعراء من متردّمِ: لئلا تموت الأماني رغم ضيق الزمان
جوانا حاجي توما وخليل جريج ـ «بيروت المعجزة 10» (طباعة على المنيوم ـــــ 1998/ 2007)

أن أبقى كما أنا، حيث أنا
حسن داوود*
أن لا تتراجع الأحوال عمّا هي الآن وأن لا تتقدّم إلى الأمام. حتى هذه الأخيرة يلزمها طاقة لم أعد قادراً على بذلها. لقد اعتدت على هذا الذي أنا فيه. بات الرجوع مرّاً مثلما هو مرٌّ التقدّم، كما قال ماكبث بعدما تعب وأُنهك. ما أتمنّاه إذن للسنة الجديدة هو أن أظلّ كما أنا الآن، حيث أنا الآن. اختبرت أن هذا القليل كافٍ لي، وفي أحيان أفكّر أن ما أتيح لي عيشُه في ما مضى كان كثيراً، فائضاً عن اللزوم. الكره أيضاً كان فائضاً عن اللزوم. أقصد كره من أوصلوني إلى ما أنا فيه. كنت أستشيط غضباً وأرفع صوتي عالياً قبل أن أخرج من البنك، متمنياً الموت، بل القتل، لمن أخذوا ما هو لي وأخرجوني خالي الوفاض. بتّ الآن كأني قبلت، أو كأنّي ارتحت للمسافة بيني وبين ما ينبغي أن يغيظني. وكذلك للمسافة بيني وبين تلك المرأة الممدّدة رجليها المتورّمتين، والمنتظرة أن أقف وأعطيها شيئاً. أقصد بالمسافة أن أمرّ ولا أعطيها شيئاً، وأن لا يعاودني الشعور المخجل المربك بأني مررت ولم أعطِها شيئاً. لا أمنية لي بمناسبة السنة الجديدة. لن أفكر ماذا عليّ أن أتمنّى لأنّي، إن فعلت، أكون أخذت كلمة أو جملة من بطاقة معايدة قديمة. كما لا يناسب أن أقول لسائلي إني أتمنى أن يصدُق وعد الوزير بساعات الكهرباء الأربع. سيظنّ سائلي أنني أسخر من سؤاله، إذ ليس هذا ما يُجاب به عند السؤال عن السنة الجديدة. لكنّني، مع ذلك، لا أجدني منتظراً ما هو أكثر من ذلك.
* روائي لبناني
■ ■ ■

أيّ أمل
علوية صبح*
أي أملٍ لي غير أن تمتلئ ملاعق الجياع بما تيسّر من طعامٍ تسدّ به جوعهم وأن لا يجفّ حليب الأمّهات من القهر طالما حليب الأطفال ممنوع ومسروق. أيّ أملٍ لي غير أن يُحاكم قتلة لبنان من أهل السلطة الفاسدة وسارقوه وناهبو ثرواته، وألا يموت ما تبقّى من مدينتي بيروت التي لا أستطيع أن أتنفّس سوى هوائها وأن يتبقى لي فيها قلم ودفتر وكرسي وطاولة أجلس أمامها لأكتب أو أقرأ أو أشرد لأتخيّل. وعلى المستوى الشخصي أيضاً، أتمنى بالطبع نجاح روايتي الأخيرة «اِفرح يا قلبي» التي استغرقت منّي أعواماً كثيرة وكنت راضية عنها قبل أن أصدرها.
* روائية لبنانية
■ ■ ■

أمنيات قديمة للسنة الجديدة
فوزي يمّين *
أن نعزّي أهالي أصحابنا المتوفّين على الفايسبوك بتعليق «ليرقدْ بسلام» مختصر إلى ثلاثة أحرف R.I.P، أو بصورة يدين مضمومتين دلالة الرحمة، من دون أن ينتابنا شعور بشع بأنّ هذا ربّما يكون أكثر راحة لنا.
أن لا نلتقي مصادفة بأصدقائنا أمام ماكينة الصرّاف الآليّ ونسأل عن أحوالهم.
أن يكون لدينا ماء.
أن لا تنقطع الكهرباء.
أن يبقى هواء.
أن يهنأ لنا بال.
أن يطيب عيش.
أن نستمرّ في ممارسة ما نُحِبّ.
أن نستمرّ في حُبّ ما نمارس.
أن نحتمل الأرض التي تحملنا.
أن نرمي النفايات حيث يجب.
أن لا نرمي كلّ شيء على الله.
أن نحلم دائماً بأمور لا نستطيع تحقيقها.
أن لا نجد أمامنا طريقاً ومع ذلك نقوم بخطوة.
أن نتعثّر بخطواتنا ونقع ثمّ نعود فنقف.
أن نراقب الأفق ونقول: هناك ما يلمع هناك، مع علمنا بأنّه شراع أدار من زمان ظهره لليابسة ومشى.
أن ندخل في سجالات، حوارات، مغامرات ليست لنا، نخسر فيها شيئاً من أنفسنا، شيئاً فشيئاً، ننهزم، ننقص، نزمّ.
أن نراقب أرواحنا تخرج من أقفيتنا ونحن نبتسم.
أن ننام ونقوم على أمل أن نعود فننام ونقوم.
أن نسمع نفس الكذبة يوميّاً ونعتقد أنّها ستكون أصدق هذه المرّة.
أن نظلّ نبذل جهداً حثيثاً لمتابعة آخر الأخبار المحلّية والإقليميّة والدوليّة حتى تسقط رؤوسنا في كؤوسنا.
أن نترك نصفَنا مع أصدقائنا ونسير بنصفِنا الآخر إلى حيث تودي بنا الطريق.
أن نفتح الباب صباحاً على أمل، ونغلقه مساءً على أمل، وإنْ بدا أنّه لا أمل بينهما.
أن نظلّ نركض حتى لو لم نصل إلى آخر الشهر.
أن نبقى معلَّقين في سقف ظنوننا ومجمَّدين في حفل جنوننا، كأنّما لا يمرّ علينا وقت ولا يغلبنا نعاس.
أن نتمسّك بالحياة كأنّنا نريد أن نأخذها معنا.
أن نظلّ نضحك، رغم كلّ شيء، على كلّ شيء.
أن نبالغ بيأسنا حتى إذا ما أدركَنا اليأسُ حسبناه مزحة.
أن نقاتل على كلّ شاردة وواردة إلى أن نتعب.
أن ندرك في سرّنا أنّ القتال لا ينتهي لمجرّد أنّنا تعبنا منه.
* شاعر وأكاديمي لبناني
■ ■ ■

كثرت الأماني والزمان يضيق
هدى فخر الدين *
لا أعرف لماذا نفترض أنّ بداية العام الجديد مناسبة للأماني والأحلام. وكأنّنا نأمل من العام المقبل أن يكون أرحبَ من الذي مضى. كأننا نرجو من الزمان أن يتّسع مع انقضاء كلّ عام، أن يهرم كما نهرم نحن، أن يفقد شيئاً من كيده، فيلينُ ما عصيَ ويَسهل ما صعبَ. لا أظنّ ذلك. كلّما مرّ عام أطمئن إلى أحلام أصغرَ من التي مضت وأرجو أقلَّ مما رجوته من قبل، ربما لأنّني أجد في بيت الشريف الرضيّ هذا حقيقةً لا مردّ لها، كما هو الحال دوماً حين يتحقّق الشعر فيفتح لنا طريقاً أقصرَ وأسرعَ إلى الحقيقة:
كَثُرَتْ أمانيُّ الرجال ولم تَزَلْ متوسِّعاتٍ والزمانُ يضيقُ
وزماننا العربي ضيّق جداً وخاصة في لبنان. صادف أنّي مررت في بيروت في زيارة سريعة نهاية هذا العام. مررت في بيروت، فلم أجدها ولم أجد نفسي فيها. وقد كانت ملاذي حتى وأنا أعيش بعيدة عنها. كنت دائماً آمن إلى فكرة الرجوع إليها، وأحلم بعودة أخيرة حين تنتهي رحلتي في البلاد الغربية. وحتّى الكتابة، يصعب عليّ أن أفكر فيها إذا لم تكن لي بيروت لأصل إليها في نهاية الجملة مهما طالت.
لذا لن أتمنّى شيئاً ولن أحلم بشيء هذا العام، وسأكتفي بأن أحلم باستعادة الحلم، الحلم الذي فقدته كما فقده كثيرون مثلي في 4 آب 2020 حين وقعت بيروت في الظلام. قبل ذلك، وعلى الرغم من كلّ ما اعترى حيواتنا في لبنان وفي المنافي من خوف وحروب وفساد، كنّا ما زلنا قادرين على الحلم. منذ لحظة الانفجار، سُلبنا القدرة على الاختباء وراء المجاز، عُرّيتْ مخاوفنا وانكشف لنا وهمنا في وطن بنيناه على الأحلام والأماني. آمل في هذا العام الجديد أن نستعيد قدرتنا على الحلم بلبنانَ مقبلٍ قد يتحقّق يوماً، مهما ضاق الزمان.

* شاعرة وناقدة لبنانية