لن أتكلم عن سحبان الأديب والكاتب، بل عن سحبان الإنسان الذي كانت حياته كلها رقصاً حتى حدود الذوبان في الذات، ورؤية خارج حدود المكان والجسد، فكان ذلك الصوفي الجميل، التائه في عشق المعشوق، والتوّاق الى اللقاء الأخير، حيث لا مكان ولا زمان، سوى الدائرة الكبرى التي تكتمل بمن أتى الله بنور على نور. وقد أكمل سحبان دورته الحالية بامتياز، فوصل النقاط التي يتكون منها مشواره بالحب والعشق والزهد، كما بالكرم والرحمة والكرامة، كما بالتواضع ثم التواضع.
ليس صحيحاً كما يردّد الكلّ أن سحبان رحل باكراً، بل نحن من ارتحلنا عنه وعن الحياة، عندما تخلّينا عن كل ما هو جميل في حياتنا، وعندما وصمناه بالجنون، وظننّا بأننا أعلم منه، وبأنه ليس سوى جاهل صعلوك، لأن لباسه وطريقة عيشه لم تكن تتناسب وأهواءنا، وجوعنا العتيق لمظاهر البذخ، والقصور الجميلة الفارغة من الجمال، والبيوت التي تلمع نظافة، ولكنْ ملؤها الحقد والضغينة. ارتحلنا عنه، حين ارتضينا الحزن والسواد والكذب وما حولهما من المرائين وتجار الهيكل، وهم يبتسمون في موضع البكاء ويضحكون في موضع الفاجعة، وعندما ارتضينا ليزيد لبس عباءة الحسين، وحين قلبنا اللونين الأسود والأبيض في هذا البلد الأمين حتى الرذالة في اغتيال ذاكرته ووأد عقله، فلا يعرف خيطاً ذهنياً ينظم فيه صفائح الكذّابين، غير النفاق والتسبيح بحمدهم.
ارتحلنا عنه، حين نسينا أن غاية الدين هي تحقيق إنسانية الإنسان، فقلبنا المفاهيم وتنكّرنا لتاريخنا، فتحوّلت كربلاء من نصرة المظلوم على الظالم الى نصرة الظالم على المظلوم. وكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد. لكن أمثال سحبان لا تتحوّل أبصارهم الى حديد، فأمثاله لا يعرفون المادة، ولا المادة تعرفهم، أمثاله، هم في قلب الروح وجوهر الطاقة، ولم يكن بصره حديداً، بل هو دفء وحب وعشق تجاه الذات المنشودة والمعشوق الأسمى.
وفي النهاية، أختم بعبارة بيلاطس الشهيرة بحق السيد المسيح: ECCE HOMO، «هذا هو الإنسان».
وأنا بدوري يا معلمي وصديقي ورفيق الأزمان المختلفة، أردد القول:
يا سحبان...
أنت هو الإنسان.