عُثر في مدينة سامراء العباسية على الكثير من الكِسَر الجصية المرسومة التي تُمثِّل وجوهاً بشرية. من غير المؤكد أن يكون بعضها صوراً شخصية (بورتريهات) لشخصيات معروفة، كما قِيل. وأمام هذه سنتوقف في البدء. قطعتان كُتب جوارهما: مفلح، مشمش. وقد افتُرض أن مفلح هو القائد العباسي مفلح الذي يمكن قراءة بعض سيره في وقائع وحروب الدولة العباسية، ففي «سير أعلام النبلاء»: «في سنة 258هـ جرت وقعة بين الزنج، وبين العسكر، فانهزم العسكر، وقتل قائدهم منصور، ثم نهض أبو أحمد الموفق ومفلح في عسكر عظيم إلى الغاية لحرب الخبيث، فانهزم جيشه، ثم تهيأ وجمع الجيوش، وأقبل فتمت ملحمة لم يسمع بمثلها. وظهر المسلمون، ثم قتل مقدمهم مفلح، فانهزم الناس، واستباحهم الزنج....». وذكر الطبري أن الأتراك في زمن المهتدي «لزموا الحير حتى خرجوا مما يلي الحائطين، ثم خرجوا، فأما مفلح وواجن ومن انضم إليهما فسلكوا شارع بغداد حتى بلغوا سوق الغنم...». وفيها: «كان المهتدي بالله من جانبه يؤلب الجند والعامة ضد القواد الأتراك. فقد جاء بالفراغنة والأشروسنية والاشتاخنجية والطبرية والديالمة وغيرهم، فسألهم النصرة على موسى ومفلح...». ومن ذلك يبدو أن مفلح كان رجلاً قاسياً لم يسلم عامة الناس من شرّه.
بورتريه امرأة أفريقية في الجوسق الخاقانيّ العباسيّ

لا تُظهر بالضرورة صورة سامراء المرسومة المزعومة لمفلح، المرمّمة لاحقاً من طرف هرتسفيلد، قائداً عسكرياً، قدر ما تقدم رجلاً يرتدي ثوباً عليه زهور، تُشابُه شارات الصليب. وهذه الشارات تعيدنا إلى بناء سامراء وقصورها: لقد اشتريت أراضيها من دير وبُنيت على أرض دير. يقول اليعقوبي إن دير النصارى القائم قبل بناء سامرّاء كان في الموضع الذي صارت فيه دار السلطان المعروفة بدار العامة، وصار الدير بيت المال (البلدان لليعقوبي، ص54-55).
لذا من غير المستبعد أن يكون البورتريه لأحد رهبان الدير السامرائي ذاك أو أحد مسيحيي المدينة الذي لعله كان يعمل في جيش العباسيين. هذه فرضية تقود إليها إشكالية الاسم جوار الرسم. إن رواية الحِميري في «الروض المعطار في خبر الأقطار» عن بناء قصور سامراء مُفصّلة ودالة، وأول كلامها مصبوب على شراء أرض دير.
بورتريه امرأة أفريقية نادر في الجوسق العباسي
المادة الأرشيفية الكبيرة التي تركها هرتسفيلد عن حفريات سامراء، لم تَفحص في يقيننا بعض تفاصيلها، منها هذا البورتريه الأنثويّ الأفريقي النادر في الجوسق العباسي:
كسرة من لوحة جدارية في دار الخلافة، الجوسق الخاقاني، قاعة الاستقبال، غرفة الحريم. والكسرة منشورة في صورة فوتوغرافية عامة ترينا كسرتين، الكسرة التي تحتوي هذا العمل نرى فيها أيضاً بقايا رسوم ممحوة حذفناها هنا وأبقينا على الوجه وحده (الكسرة ضمن مجموعة برقم FSA A.06 04.PF.21.037). منشورة في عمل هرتسفيلد «حفريات سامراء، تصاوير سامراء» بالألمانية، المجلد الثالث.
من النادر رؤية مثل هذا البورتريه في الفن الإسلامي


من النادر رؤية مثل هذا البورتريه في الفن الإسلامي، وقد وقع تنفيذه بإحكام وحرفية عالية بالنسبة لوقته، حتى أن الرسام قدّم لنا سيدة ممتلئة بملامح جانبية، أنف وفم وحنك، وأذن أقرب للدقة التشريحية وبسالف على شكل النون أو العقرب.
يحفل التاريخ الإسلامي بوصف أنماط الجواري والرقيق في البلاط العباسيّ المتأخر، ومنه الرقيق الزنجيّ. وقد كتب الطبيب العباسي ابن بطلان 1049م في موضوع الرقيق «رسالة جامعة لفنون نافعة في شرى الرقيق وتقليب العبيد»، لكننا لن نجد على طول وعرض الفن الإسلامي تصويراً مبكراً لهذا الرقيق سوى في عملين متأخرين قليلاً نادرين ليحيى الواسطي، في القرن الثالث عشر الميلادي. الأول منمنمته التي يصوّر الرسام فيها سوق العبيد في مدينة زبيد اليمنية، (المكتبة الوطنية الفرنسية برقم Arabe 5847 f. 105) من عام 1237م. في المستوى الأول من الرسم، يمكننا أن نرى العبيد الزنج ينتظرون المشترين وإلى جوارهم يميناً رجل يبدو أنه النخّاس، وخلف الرقيق امرأة بيضاء وإلى يسارهم امرأة بيضاء أخرى وغلام كأنهم كلهم من العبيد غير الزنج، في الخلفية نرى رجلين يَزِنان المال ثمناً للعبيد في الغالب. منمنمة نادرة، فاتنة تشكيلياً. المنمنمة الثانية ترينا ثلاثة عبيد يجلسون أمام قصر الخلافة في بغداد. ثمة عمودان على يسار ويمين هذه المنمنمة.

* شاعر وجامعي عراقي