إنّها ليست قصة عادية. إنها حكايتنا كلّنا. ما يطرحه مسلسل «فاتن أمل حربي» ليس حكاية النساء فحسب، بل حكاية كثيرين عاشوا وما زالوا تلك «الحكايات» القاسية. الحكاية البسيطة والمباشرة والإشكالية التي كتبها الكاتب المصري المعروف إبراهيم عيسى: إنها الزوجة التي يقرّر طليقها تحويل حياتها إلى جحيم. هكذا هي الأمور، بكل هذه البساطة. فجأة تتحوّل حياة الأم ذات الطفلتين إلى مأساةٍ بكل ما للكلمة من معنى. طبعاً السينما المصرية تناولت هذا الموضوع عبر أعمال شديدة الأهمّية مثل «أريد حلاً» (1975 ـــ كتابة حُسنْ شاه، إخراج سعيد مرزوق ـــ بطولة فاتن حمامة ورشدي أباظة)؛ و«الشريدة» (1980 ـــ كتابة حُسن شاه، إخراج أشرف فهمي وبطولة نجلاء فتحي، نبيلة عبيد، ومحمود ياسين)؛ و«اغتيال مدرّسة» (1988 ــ كتابة مصطفى محرّم، إخراج أشرف فهمي ــ بطولة نبيلة عبيد ويوسف شعبان)؛ وكلّها قاربت القضية نفسها ولو من نواحٍ مختلفة.

«فاتن أمل حربي»، هذا هو اسم المسلسل، والحكاية، والقضية بأكملها. أراد الكاتب أن يكون اسم البطلة كعنوان مباشر، فجّ، وصريح: أصل المشكلة أنّ هذه امرأة/فتاة/أنثى. حتى اختيار الاسم مقصود. أشار ابراهيم عيسى إلى اختياره للأسماء الثلاثة في مداخلة هاتفية لقناة «أون. إي» المصرية قائلاً: «المسلسل عبارة عن جملة ثلاثية بدأها بكلمة فاتن، تيمّناً بسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة كأنها بنت هذا الزمن، وكلمة أمل في إشارة إلى الشاعر أمل دنقل، بينما الكلمة الثالثة هي حربي التي ترتبط بالشاعر نفسه». هو طبعاً يشير إلى دور فاتن حمامة في فيلم «أريد حلّاً»؛ العلامة الفارقة في «دراما العائلة» حينما كتبت الكاتبة حُسنْ شاه نصّها الأجمل الذي يتناول الصراع بين الزوج الذي يدعمه القانون والدين، والزوجة التي لا تملك إلا شجاعتها وصمودها.
لا يمتاز «فاتن أمل حربي» كمسلسل بقصّته فقط، فالقصة كما أشرنا تناولتها أعمال عدة في الدراما المصرية والعربية، لكنّ القوّة تظهر في الأداء المذهل لنيللي كريم. بالتأكيد إن كتابة الشخصية بهذا الانسجام والدقة والسعة، سهّلت لممثلة قديرة كنيللي أن تعطي من قلبها، فضلاً عن أنّ الدور بحد ذاته يلامس أي شخص يعيش في المجتمع العربي المعاصر. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنَّ المسلسل ابتعد عن الكليشيهات التي تعتمدها جمعيات الـNGO›s والنسوية المموّلة غربياً. فالبطلة عادية تشبه أي سيدة في المجتمع الذي تعيش فيه، إنها تريد أن تعيش حياتها بسلام، تربّي ابنتيها وتستمر. تتمحور الشخصية حول قوّة فاتن ذات اللسان السليط. ليست «شتّامة»، لكنها تعرف كيف تردّ بالكلمة المناسبة، وما أغنية تتر المسلسل «أنا مش ضعيفة» التي كتبها الشاعر مدحت العدل، وأدّتها أنغام إلا لسان حال البطلة، فضلاً عن أنّه يختصر البطلة والمسلسل. في المقابل، يؤدي شريف سلامة دوره بمهارةٍ، إنه الزوج الذي لا يفعل شيئاً، سوى الكلام السطحي الذي يستعمل كليشيهات الدين والأخلاق كي يجبر زوجته على احترامه و«تقديسه». لا يؤدي أياً من واجباته تجاه زوجته، لا بل يستغل المجتمع وتخلّفه لإجبارها على العودة إليه صاغرةً مكسورةً. لا يتورّع عن رمي زوجته وطفلتيه في الشارع في منتصف الليل لكسر شوكة زوجته. لاحقاً يتّجه للمحاكم والشرطة والقانون لليّ ذراعها؛ وهو ما يحدث فعلاً، ذلك أنّ القانون يقف في صفّه، وهو يستغل ذلك أيّما استغلال. يبرع سلامة في تقديم هذه الصورة الذكورية المنتشرة في المجتمعات العربية التي تتسلّح بقوانين يُشير المسلسل إلى أنّها «وضعية»، بالتالي يمكن تعديلها والمراكمة عليها للحصول على قوانين عادلة تمنح المرأة حقّها الطبيعي والمنطقي بتربية أولادها.


في المقابل، نرى الصراع مع المحاكم والقوانين الوضعية والدينية. تدخل البطلة في صراعٍ مع المحكمة، ما يؤدي بها إلى السجن أربع وعشرين ساعة _ في لحظة ما _ بتهمة تحقير المحكمة والقانون حين تُشير إلى أنَّ القانون «ظالم» ولا يقدّر وضع المرأة، ما يدفع القاضي إلى سجنها. الأمر نفسه يتكرّر حين تزور أمل أحد مشايخ الأزهر للحصول على «فتوى» دينية، لتقول له ختاماً بأنَّ «الله مش بيقول كدا»، قاصدةً أنه ليس هناك نصٌ إلهيٌ واضحٌ يُشير إلى حق الوالد بالحضانة، وهو ما يفشل الشيخ في إثباته. لاحقاً يوغل المسلسل في إظهار عمق المشكلة: إنها ليست مشكلة قضاءٍ فقط، بل مجتمع. يظهر شيخ «التيكتوك» مع الماهر أحمد ماجد، الذي يستغلّ القضية ليزيد من «ترينداته» ويحوّل «تونة» ـــ كما يطلق عليها أحبتها ـــــ «خارجة عن الملّة والدين» كعادة شيوخ «التكفير» في التعامل مع من يرفع صوته بالحق.
أخرج المسلسل محمد جمال العدل، ابن منتج العمل جمال العدل؛ وهو يستخدم تقنيات جميلة في تقديم المشاهد. ظهر ذلك مثلاً حين يضرب الزوج زوجته لكن المشهد يبتعد بالكاميرا إلى الزوايا البعيدة، فلا تظهر مشاهد العنف، لكن المتلقّي يسمع الصوت، ويرى الظلال. كذلك، هناك بساطة في تناول الصورة، فلا نرى البطلة مبهرجة ولا بـ full makeup. إنها أمٌ منهكة؛ محاصرة، لا تستطيع حتى التفكير بوضوح جرّاء الهجمات المتلاحقة لزوجها عليها. وهذا كله يُحسب لثلاثي العمل المخرج، الكاتب والبطلة. على الجانب الآخر، نجح المخرج في انتقاء ممثلين كفوئين لتأدية بقية الأدوار. نجد محمد ثروت في دور المحامي اللعوب الذي يرغب بمساعدة فاتن، وإن ظلّ على حاله نفسه. يخبرها بأنَّ عليها أن تطلّق حياتها العادية وتتزوج حياة المحاكم والقضايا كي تفوز على طليقها قانونياً. في الإطار عينه يبرع محمد التاجي بتقديم أداء هو الأفضل في مسيرته أو في رمضان الحالي. وبالتأكيد لا يمكن نسيان الدعم الكبير الذي يقدّمه ممثلون مهرة أمثال محمد الشرنوبي، أحمد ماجد، هالة صدقي؛ فادية عبدالغني، وحاتم صلاح.
يسعى «فاتن أمل حربي» لرفع صرخةٍ بوجه الظلم الذي تتعرّض له آلاف النساء على امتداد الشارع العربي يومياً. ويأتي أداء نيللي كريم وشريف سلامة الحقيقي والواقعي، فضلاً عن القصّة/ القضية المسبوكة بعناية الصورة لتعزّز العمل؛ فيصبح أمامنا أحد أفضل إنتاجات هذا العام الدرامية.

* «فاتن أمل حربي»: «دبي» (19:00)، «سي. بي. سي» (19:30)، «سي. بي. سي. دراما» (17:00)