كانت لي المتعة والشرف بلقاء محمّد عبد الوهاب (13 مارس 1898 - 4 مايو 1991)، ذات يوم من شهر أيّار (مايو) 1967، في مصيف شتورا اللبناني. كنت ألاقيه كل يوم، منذ طفولتي في يافا، عبر إسطوانات «بيضافون» التي خزّنت كنزه الغنائي والموسيقي، منذ 1927 حتى سنة 1939، أستمع إليها بدءاً من الأربعينيّات، مع شقيقَيّ الياس وسليم، ونحن لمّا نزل أطفالاً، على فونوغراف، كان من أوائل ما ظهر في البيوت في فلسطين من هذه الآلة الحاكية- المغنّية. وحين زار عبد الوهاب يافا، سنة 1944، وسجّل في استوديوهات إذاعة الشرق الأدنى أغنية «إجرِ يا نيل»، لم يكن في وعي طفل في الثانية من عمره بعد، أنّ عملاقاً موسيقيّاً بهذه القامة، يزور مدينته، ويعمل مع موسيقيّين آخرين في عمل جديد، على مسافة محطة أوتوبيس واحدة من منزله في حي الجبليّة، في استوديوهات تلك الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربيّة.
لكن الأيام التي ساقتنا إلى موطن والدي، لبنان، سنة 1947، كان مقدّراً لي فيها، أن أرى ذلك الموسيقار المطرب الكبير، بشحمه ولحمه، وأن نتحادث معه، شقيقي الياس وأنا، في مصيف يبعد عن بيتنا في بيروت مسافة ساعة بالسيارة، على مدى ثلاث ساعات كاملة.
كنت آنذاك قد بلغت، ووصلت إلى ذلك اللقاء، التاريخي بالنسبة إليّ، وقد أكملت تخزين كل إسطوانات «بيضافون»، التي اشترى والدي موسى كلّ مجموعتها، بعدما أعادت «بيضافون» في الخمسينيّات طبعها على إسطوانات خضراء اللون، من ذوات الدورات الخمس والأربعين في الدقيقة. كنا نسمع كلاً من هذه الإسطوانات مراراً وتكراراً، حتى نحفظها غيباً، مثلما يحفظ التلميذ درسه. لقد كان لقاء شتورا في زمن كان عبد الوهاب قد صار جزءاً من مخزوني الموسيقي والعاطفي والوجداني، من خلال تلك الإسطوانات، وأفلام عبد الوهاب التي كانت والدتي ندى حريصة، منذ طفولتنا، أن تصحبنا لحضورها، حتى لا يفوتنا شيء، من نفائس موسيقار الأجيال.
لكنّ موعد اللقاء، في أيار (مايو) 1967، في فندق «شتورا بارك أوتيل»، في مصيف شتورا اللبناني، الذي كان يملكه ظريف لبنان نجيب حنكش، هذا الموعد الذي صادف تصاعد التوتر، قبيل حرب حزيران (يونيو) 1967، أضفى على حديثنا، أخي الياس وأنا، مع محمد عبد الوهاب، عنصراً لم يكن في الحسبان، وهو الحديث في الأوضاع الدوليّة المتوترة، بعد إقفال الرئيس جمال عبد الناصر مضائق تيران في وجه الملاحة الإسرائيليّة، إثر تهديد تل أبيب سوريا، في أعقاب أزمة مياه نهر اليرموك.
دخلنا الفندق، ووجدنا محمد عبد الوهاب يتناول بعض العصير في الصالون. تصافحنا، وبادر إلى اقتراح السير في الجنان المحيطة بالفندق، لنبتعد عن الفضوليين المتطفّلين، وما أكثرهم مع شخص مثله. كان يعرف عن أخي الياس كتاباته في النقد الموسيقي، في مجلة «الحوادث»، ومنها مقالة ظهرت في شباط (فبراير) 1964، بعد أسبوع من ظهور أغنية «إنت عمري»، انتقدَت لحن الأغنية، لكن تبعتها بعد أسبوع واحد، مقالة ثانية في المجلّة، بعنوان: «إني أعتذر»، وشرح فيها الياس عدم استيعابه اللحن في أول مرّة سمع فيها الأغنية، لكنه تمعّن فيها مراراً وتكراراً، وانقلب رأيه من الانتقاد إلى الحماسة الشديدة، لهذا اللقاء الأول بين «كوكب الشرق»، والموسيقار الكبير.
لم يكن أخي الياس بكتاباته هذه نكرة في نظر عبد الوهاب إذن، أما أنا، فكنت في أول سنيّ بلوغي، ولم أبدأ الكتابة في تاريخ الموسيقى العربيّة، إلا في أوائل الثمانينيّات، بعد دراستي التاريخ. لكنني ذهبت للقاء عبد الوهاب بـ«رفقة» أخي، فشاركت في حديثنا معه بالحد الأدنى. وكان الحديث الأوفى مع الياس، الذي كان لقاؤه هذا هو الأول، من نحو 15 لقاءً مع عبد الوهاب، كانت موضوع تفصيل كامل في كتابه: «مع محمّد عبد الوهاب» ( 2014 ـ دار نلسن ـ بيروت).
فرض الوضع السياسي نفسه إذن على الحديث، في معظم الوقت. وكان واضحاً من أوله إلى آخره، أن عبد الوهاب كان معجباً بالرئيس عبد الناصر، بأنه أدار العمل الرسمي المصري بعد 1954، انطلاقاً من موقف وطني مصري، فتمكّنت مصر من إجلاء الجيش البريطاني بعد 70 سنة من الاحتلال. وكان موضع إعجابه الثاني بالزعيم العربي، من منطلق قومي، في مسألة أنه لم يترك سوريا وحدها في مواجهة الخطر الإسرائيلي. وكان في حديثه، الذي أذكر عموميّاته، من دون التفاصيل الدقيقة، أنّ هذا الإعجاب بالزعيم العربي، كان سببه نزعة قوميّة عربيّة عند عبد الوهاب، كانت قد بدت واضحة في سلوكه الموسيقي والغنائي، منذ ثورة 1952.
في سنوات الثورة الأولى، بدت على أغنياته الوطنيّة سمة المستوى المتوسّط (بالمعايير الوهابيّة)، إلا «نشيد الحريّة»، الذي لحّنه قبل الثورة. لكن في سنة 1956، بعد العدوان الثلاثي، وجلاء القوات البريطانيّة والفرنسيّة والإسرائيليّة، بدأ عبد الوهاب نمطاً جديداً من الغناء الجماعي في الأناشيد القوميّة الوطنيّة، بأنشودة: «قولوا لمصر تغني معاي ف عيد تحريرها»، وشاركه في غنائها: شادية، ومحمّد عبد المطلب، وفايدة كامل، وعبد الغني السيّد. لكن الموقف القومي برز على الخصوص، عند عبد الوهاب في سنوات الوحدة مع سوريا، ولا سيّما في أغنيته الخالدة عن الوحدة: «أغنية عربية»، سنة 1958.
إذن كان هذان الموقفان، الموقف الوطني في معركة الجلاء، والموقف القومي الذي بدا من سلوك الرئيس عبد الناصر السياسي، هما اللذان استحقّا محبّة عبد الوهاب وحماسته لقائد ثورة الجمهوريّة المصريّة.
كذلك، أبدى عبد الوهاب إعجابه الشديد بالبراعة السياسية التي كان يبديها ناصر، خصوصاً في إفادته من التوازن بين الكتلتين الغربيّة والشرقيّة، في الحرب الباردة (1949-1990). فكسر احتكار السلاح، بشرائه سنة 1955 من الكتلة الشرقيّة، وكان من كبار المبادرين إلى تكوين كتلة عدم الانحياز، مع يوغوسلافيّة تيتو وإندونيسيّة سوكارنو وهند نهرو، على الخصوص. ولم تكن مبادرته إلى إغلاق مضائق البحر الأحمر في وجه الملاحة الإسرائيليّة أقل وزناً في الإعجاب الوهّابي بناصر؛ ولو أنّ الأحداث التي تلت ذلك في النكسة لم تأتِ كما اشتهى واشتهينا بالطبع. غير أنه سارع بعد 5 يونيو وما جرى فيها، إلى صديقَيه الأخوين رحباني، ليؤلّف مع منصور، ويلحّن ويغنّي: «طول ما أملي معاي وبإيديّ سلاح».
هل كان عبد الوهاب «ناصرياً» كما يقولون. هذا ما كان يمكن أن يبدو لي في لقاء شتورا. غير أن ماضي عبد الوهاب يميط اللثام عن ميلٍ آخر، كان واضحاً لديه، وهو علاقاته الوثيقة مع زعماء حزب الوفد المصري الوطني، الذي أسّسه سعد زغلول، وكان يقوده في الأربعينيّات مصطفى النحّاس باشا، ومن أقطابه البارزين مكرم عبيد. كانت علاقة عبد الوهاب بهما علاقة شبه يوميّة بعبيد، وعلاقة تشاور وتبادل آراء بالنحاس باشا. ففي أغنية واحدة، هي «الچندول» (1939) تروي لنا سيرة الموسيقار العربي، أن قصيدة علي محمود طه، وقعت بالصدفة بين يدَي عبد الوهاب، في صحيفة كان يقرؤها في مكتب مكرم عبيد، حين كان السياسي المصري منشغلاً بأمر آخر. وتروي لنا سيرة عبد الوهاب أيضاً أن مصطفى النحّاس أبدى امتعاضه له، عند سماعه الأول لـ «الچندول»، لأن عبد الوهّاب بدا فيها كأنه يتكلّم، ولا يغني. لكن النحّاس عاد عن رأيه في ما بعد، وأبدى لعبد الوهاب إعجابه الشديد بها، تماماً مثلما حدث مع أخي الياس و«إنت عمري»، وكما كان يحدث مع كثير من المستمعين، حين يسمعون لحناً جديداً لعبد الوهاب للمرة الأولى، بسبب عناصر التجديد التي كان مدمناً على ابتكارها في كل أغنية له.
المهم: هل كان عبد الوهّاب ناصرياً، كما بدا لنا في لقاء شتورا، أم وفدياً، كما كان ماضي سيرته يروي؟ أم هل كان الأمرين معاً: وفديّاً قبل 1956، ثم ناصرياً بعدها؟
لقد أبدى عبد الوهاب في لقاء شتورا، ميلاً واضحاً للرئيس المصري، لكن بعض التدقيق التاريخي الذي امتهنتُه، في سيرتي الدراسيّة والعمليّة، بيّنَت لي أن الموسيقار العربي الأكبر، أبدى ذات يوم من عام 1959، أمراً قد يميط اللثام عن جواب جزئي لسؤالنا في شأن ميله الوطني.
في ذلك العام، لحّن عبد الوهاب أنشودته الجماعية الرائعة: «الوطن الأكبر»، التي غنّى فيها عبد الحليم حافظ وصباح وفايدة كامل وشادية ووردة ونجاة. وصدر تسجيلان للأنشودة، واحد رسمي تغنّيه المجموعة المذكورة، وتسجيل آخر بصوت عبد الوهاب على العود المنفرد. وفيه تبديل في الشعر:
ففي البيت الثاني من الغصن الأول، يغني عبد الحليم: «يَاللِّي نَادِيتْ بِالوَحْدَة الكُبْرَى بَعْدِ مَا شُفْتِ جَمَالِ الثَّوْرَة». أما عبد الوهاب، فغنّى في تسجيله الخاص هذا البيت بشعر مختلف يقول: «عُمْرِي مَا أفَكَّرْ إِلَّا فِي مَجْدَكْ عُمْرِي مَا أَحْلَمْ إِلَّا بِسَعْدَكْ». ويبدو أنه فضّل بكلمة: بسعدك، ذكر سعد زغلول، بدل عبارة جمال الثورة. وفي هذا إشارة إلى احتمال ذي وزن أن تكون هذه من منطلق المشاعر «الوفديّة» عند عبد الوهاب. وكان عبد الوهاب في عام 1956، قد أصدر أغنية وطنيّة، من زجل عبد المنعم السباعي، اسمها: «السعد جالك»، وهي التي تبدأ بقوله:
«يَا مَصْرِ زَيِّكْ مَا لْقِيتْ مِثَالِكْ/ يِمُوتْ عَدُوِّكْ وِيْعِيشْ جَمَالِكْ». وفي ختام الأغصان، عبارة في بيت شعر واحد، يقول: «والسعد جالِك ويعيش جمالِك».
فهل كان عبد الوهاب، هو الذي أوحى للشاعر بهاتين الإشارتين، وهل هما دليل آخر على ميل عبد الوهاب الوفدي، أم أنه كان يرى في جمال عبد الناصر استمراراً للميراث السياسي الذي خلّفه سعد زغلول، كما يبدو من اسم الأغنية، ومن العبارة في ختام أغصان الأغنية؟
غير أنّ الجهد الكبير والإلهام الثري الذي بدت فيه أعمال عبد الوهاب في العهد الناصري (36 أغنية، منها تحف تاريخية عديدة) رجّحت لديّ أنه كان عروبيّاً في الصميم، وطنياً صادقاً في مشاعره ووجدانه، أكان وفدياً أم ناصرياً. كان أخي الياس يخطط لأن يكون لقاؤنا بموسيقار الأجيال في شتورا لقاءً في الموسيقى والغناء، اللذين احتلّا جانباً محدوداً من محادثة استمرت ثلاث ساعات، واستأثر الوضع السياسي، بالحصّة الكبرى فيها.
على أي حال، برأيي أن محمّد عبد الوهاب كان أكبر من مجرّد صاحب موقف سياسي؛ قد لا يكون له أي وزن مباشر في الأحداث من الناحية العملية. إلا أنه كان زعيماً للأمة العربيّة في مقاومتها الثقافيّة الموسيقيّة على امتداد معظم العقود طوال القرن العشرين. فالأمة كانت مخيّرة في مواجهة الغرب، بين أمرين أحلاهما مرّ: إما التمسّك بالتراث العربي الموسيقي مثلما هو وعدم المسّ بأي من عناصره، وبذلك نخسر الحرب مع العالم المتجدّد والفكر الثقافي المتطوّر ونمكث في الماضي مهزومين، أو أن نعتنق مبدأ الذهاب إلى آخر مدى في السير بمسار إحلال الغزوة الثقافية الغربية التي اكتسحت العالم بتجديدها وتطويرها العلمي والثقافي والعسكري والسياسي، محل ثقافتنا، فنخسر شخصيّتنا ونصبح توابع بين الأمم القويّة.
عبد الوهاب صاغ الصيغة الثالثة المُثلى، فتمسّك بشخصيّة موسيقاه العربيّة وعناصرها الأساسيّة، من تجويد الكلمة العربيّة وإيقاعها، وإلباسها المقامات والإيقاعات العربيّة الأصيلة، وفي الوقت نفسه انتقى من العناصر الموسيقيّة الغربيّة ما لا يمسّ شخصيّة الموسيقى والغناء العربيّ في أسسهما المتينة، فكان موقفه موقف استعارة إغناء لا إلغاء. وكان من جرّاء صيغته الذهبيّة المتوازنة هذه أنه ملأ (مع زملائه الكبار الآخرين) أسماع الأمة العربيّة، وأفئدتها ووجدانها وثقافتها الموسيقيّة، بنتاجٍ عربيٍّ متطوّر أدى مهمتين تاريخيتين كُبريَين:
- تطوير الموسيقى العربيّة وإغناؤها، في صيغته المتوازنة التي تفتقر إلى مثل توازنها الميادين العربية الأخرى، من علوم ولغة وهندسة وفلسفة واقتصاد وسياسة ونظم عسكريّة، وما إليها.
- صدّ موجة غزو الأسماع العربيّة، بملء الحيّز الثقافي بما ملك قلوب الناس على امتداد المدى العربي الواسع، فكان زعيم مقاومة ثقافية لا مثيل لها في تاريخنا الحديث.
لقد حظي أخي الياس، وأخي الثاني، المايسترو سليم سحّاب، بلقاءاتٍ عديدة مع محمد عبد الوهاب، لم أحظَ بمثلها، لكنني أرضيت نفسي ووجداني بلقاءاتٍ أخرى مع عبد الوهاب، من خلال إسطواناته وأفلامه، وما كنا نتابعه بشغف في الإذاعات العربيّة، وأرجو أن تكون الحصيلة التي حصّلتها دسمة، في هذا الكتاب، عن أحبّ موسيقيّ إلى قلوب العرب، في عصر موسيقي ذهبي، نرجو أن تحظى بمثله أجيالنا العربيّة القادمة.
* أكاديمي ومؤرخ لبناني