بين عالمَي المتصوّفة وأهل العرفان وكتّاب العبث والعدمية، تتحرك كتابة الشاعر العراقي صفاء سالم إسكندر (1990). ربما أنّها طريقته لتأويل جنون العيش واحتماله في وطن اختبر الموت أكثر من الحياة. أصدر إسكندر مجموعات شعرية عدة، منها: «الكون قبر لوحدتي» (أدب فن، 2016)، و«تنغيم سيرة الوردة» (سطور، 2020)، و«أغنيات لليوم التالي» (النهضة العربية، 2021). كما كانت بداياته مع السرد من خلال كتابة القصة القصيرة جداً، فنشر مجموعة قصصية بعنوان «الكلب الملاك» (ميزوبوتاميا، 2013). في العام الماضي، صدر له عملان روائيان: الأول «غرفة القارئ» (الساعي، 2021)، والثاني «طفولة چان» (ومضة، 2021). تُرجمت بعض نصوصه إلى الإسبانية والإيطالية والفارسية. إلى جانب الكتابة، هو فنان تشكيلي يرسم بالفطرة والبساطة كما يقول، إذ يجمع اللون والحرف والتجريد في رسوماته. مساحة يصفها بـ «الحيز» البعيد عن ضوضاء العالم.
صفاء سالم إسكندر: أنا أؤمن بفكرة المخلص في أي دين كان، إذ لا بد من نهاية (حسن عائد)


أبدأ معكَ من الكتابة بالفنّ وإنشائيّة الصّورة. فماذا يعني أن تُبدعَ فناً اليوم وسط ضوضاء الفنّ وزخم الصورة؟ أي استعارة يقولها الفنّ اليوم؟
ـــ اللون من حقائق الكمال، وفيض من فيوضات الجمال. هو بحد ذاته شعر، ألم يقولوا بأن الشعر رسمٌ بالكلمات، والرسمَ شعرٌ بالألوان؟ إذاً المزاوجة ليست مستحيلة ولا بعيدة، ومدارس الفن الحديثة والمعاصرة قرّبت هذه الصورة بشكل رهيب، من خلال رؤيتها للأشياء بصورة مختلفة، وطريقة مغايرة. أمر يجعل العين تبصر الجمال من جانب أو جوانب أخرى، وهو إضافة وتثقيف آخر، وبشكل ما، يُبعد من يريد أن يبدع، عن الضوضاء ويخلق فراغاً له، في هذا الحيز الصغير، سيبدع، أو يؤرخ، رسماً أو شعراً أو كتابة، سيكون مأخوذاً إلى تلك الملكة فقط. الأمر يشبه ما يحصل لأهل التصوّف والعرفان، وانشغالهم. كذلك يحصل لمن يريد الرسم أو الكتابة، يبدو مأخوذاً من كل شيء إلى هذا الحيز، فضوضاء العالم، في تلك اللحظة، لا تُعد أي شيء، بل أنت غير معنيّ بها، طالما يشغل بالك وسمعك شيء آخر.

ما الذي يخلقُ الصّورة الفنية عندك وما الذي يخلقُ الصورة الشعرية؟ كيفَ تكونُ هذه الحركة المتنقّلة من فلسفة النّظر إلى فلسفة الكتابة؟
ـــ حتى لو أدركنا الفراغ، فإننا نتعامل معه بحكم الزائل؛ وزواله سريع. هذه الحتمية، قادمة من المصادفات التي تجعلنا نرغب في رؤية كل شيء ممتلئاً إلى آخره. هذا السعي وراء الكمال مجهد، وهو مجرد سعي، لا حقيقة كاملة له. الأشياء التي تتعلق بالعظمة أحياناً تأتي من البساطة. إذاً، لماذا لا أستخدم هذه البساطة في رسومي، طالما كنت أرسم بالفطرة، وأجهل الكثير من تقنيات الرسم. هذه الرؤية ساعدتني كثيراً في تفادي الكثير من مواطن الضعف وبيّنت لي الكثير.

«إذا كُنت الكُلّ فما هو العالَم؟»، هكذا تفتتحُ مجموعتك «أغنيات لليوم التالي» في عبارة لفريد الدين العطار. في هذا السؤال، يصبح الفرد المطلق في مواجهة سؤال «العالَم». هل هذه القصائد في الحقيقة تأملات في الكينونة؟
ــ دائماً ما كنت مأخوذاً بالعرفان والتصوف، وطالما منّيت نفسي بأن أكون واحداً منهم. وعندما صارت قراءتي لهم مختلفة، زاد تعلقي بهم، فهم على المستوى الشعري، يمتلكون جانباً روحياً لا يتكرر. تلك الصور المكثفة والناضجة والضاجّة، تلك اللغة التي تجعل الروح منجذبة إلى ذلك الجمال، إلى ذلك الواحد، للعلة والسبب. هذه اللغة أخذت انفعالي إلى جانب آخر، جانب تقديسي، سعي في العشق، وامتثال، وبشكل ما، تأمل في المعشوق أو العشق بصورته البشرية. أعرف أن أهل العرفان يدرّبون أنفسهم طويلاً ليصلوا إلى تلك الكشوفات، إلى تلك المرحلة من إزالة الحجب. إذاً هي غاية، القصد منها أن تكون بين الجمع ولا ترى ولا تسمع إلا المقصود.

في كتابك الشّعري- التأملي «تنغيم سيرة الوردة»، نجدك مفتوناً بمفردات الهامش، أو الحواشي، أو الوجه الآخر للمفردات التي أكلَها اليومي البشريّ. صوتُ الشاعر في حالة سجال بين البديهيّ والتجريبيّ. لماذا هذه المغامرة في اللغة الشعريّة اليوم، ونحن على حافّة واقع متفجّر؟
ــــ الهامش، أذكر نفسي بالهامش، هناك ما هو غائب، والصيد الثمين، العزلة والمهرب، واللغة أيضاً، وما يراد له أن يكون وما لا يكون. في كل الأحوال، كنت أقصد المهرب، ولا مهرب بلا هذه المفردات. لا أعتقد أننا سنتحمل المزيد من هذا الضغط، من هذا البؤس والظلم والحيف، لذا أنا أؤمن بفكرة المخلص في أي دين كان، إذ لا بد من نهاية.
عمر النص يرتبط أحياناً بغموضه، كأنه مسألة رياضية تنتظر من يحلها


في الكتابة، كما في الفنّ، ثمّة مساحة للغموض يجب الحفاظ عليها. كل شيء قابل للتأويل ما دام هذا الغموض قائماً. التواجد على الحدّ المتاخم بين الواضح واللامعلوم في الكتابة والفن.
ــ أحياناً عمر النص يرتبط بغموضه، كأنه مسألة رياضية تنتظر من يحلها، ولا حل لها إلا بالتأويل المقنع، وهذا الكلام عن النصوص العظيمة والكبيرة التي تأخذ أكثر من وجه في تفسيرها، كل مبدع يسعى إلى بقاء شيء من اللعبة له، شيء من نشوة الخالق والعارف، كي يضمن سيطرته وحضوره.

العراق لا يحضرُ كوطنِ. إنّه المَكان الخوف، الخطر، الحلم، المغامرة، المكان الجثّة. كيف تأتي طفلاً من هذا المكان، لتقوله في الكتابة والفن، عبر لامرئيّته؟
ــ ما الذي شكّله هذا الوطن في ذاكرتي؟ لو لاحظت أن أبناء جيلي في أغلب نصوصهم اليومية، أو في أول كتاباتهم، لا تغيب مفردة «الموت» في أغلب النصوص، وهذه اللغة ردة فعل، وتفكيك للذاكرة، وسعي لرمي حمولة مرحلة رهيبة من تأريخ هذا الوطن، ربما يخفّ العبء. لكن هل سيأتي الحلم؟ أو متى نرى الوطن؟