هل يمكن لثقافة ما أن تموت؟ «الحقيقة هي أنه لا يوجد شيء يموت فعلاً، ليس من الناحية الثقافية». يقول مارك فيشر في إحدى منشوراته على مدوّنته «كي- بانك»، فما يحدث أنّ الثقافة في لحظة معينة لا ندركها إلا بأثر رجعي تتوقف عن تجديد نفسها وتتحجّر. غير أنها أقرب ما تكون إلى درّاجة كانت منطلقة ومات راكبها واستمرت في التقدم بسبب ما تبقى من طاقة القصور الذاتي. يتمتع الإنتاج الثقافي بالحيوية لفترة من الوقت فقط، مثلما هو الأمر في الشعر الغنائي والأوبرا والروك التي كان لها وقتها. صحيح أنها أشكال تعبير تظل موجودة ولها جمهورها، ولكن إرادتها في الثقافة وقوتها تتضاءل، تتحول من نتاج فاعل ومؤثر إلى شيء تاريخي وجمالي فقط. كان المنظّر الثقافي والناقد الموسيقي البريطاني فيشر، يخوض في هذه الأفكار وأخرى أكثر إشكالية في كل مرة يجدد مدونته المعروفة بـ K-Punk التي استمرت ما بين عامي 2003 و2016. أصدقاؤه جمعوا لاحقاً كل ما نشره فيها ضمن كتاب يحمل اسم المدونة نفسها بعد رحيله في كانون الثاني (يناير) 2017.


لم يمر نشر فيشر لتدويناته بهدوء معظم الوقت. كان السجال والجدل يثور حول ما جاء فيها بين مؤيديه أو لنقل مريديه، وبين منتقديه ومن وقفوا على النقيض من وجهات نظره الثقافية والسياسية بالضرورة. كانت سنوات المدونة بالنسبة للثقافة البريطانية على وجه الخصوص، محمومةً بالحماس للنقاش ومليئة بالخلافات التي يثيرها كل أسبوع. يذكر الناقد الموسيقي سيمون رونالدز، الكاتب في صحيفة «غارديان»، حالة الانتظار لما سيقوله فيشر. يقول «إحساس أتذكّره بوضوح شديد. أتذكّر الترقب الكبير في تلك الفترة الصباحية من أوائل إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عندما كان أول شيء أفعله بعد إعداد الشاي هو التحقّق ما إذا كان «كي-بانك» قد نشر. كان «كي -بانك» الشخصية البديلة لفيشر على الإنترنت التي أعادت الحماس الفكري في لحظة عظيمة...».
ربما لم يحدث إلى اليوم أن وصلت مدونة موسيقية في تأثيرها في الأوساط الثقافية إلى هذا الحد. كثيرون يعتبرونها اليوم أرشيفاً أساسياً لفيشر كظاهرة، مثلما يؤرّخ لمرحلة ويمثل جيلاً يعيش تحت نير النيوليبرالية كعقيدة سياسية اقتصادية، من وسائل هيمنتها التي بدأت تصبح أقوى وأوضح في العقد الماضي التمييز والعنصرية والأصولية العرقية وتغييب الوعي الثقافي، فالسياسة النيوليبرالية التي بدأت في نهاية السبعينيات عنت ــ بحسب فيشر ـــ عودة القوة والامتياز الطبقي وتهيئة الظروف لتراكم رأس المال.
من هنا على الأرجح، يأتي اهتمام فيشر بشكل خاص بحقبة السبعينيات. إذ شهدت نهايتها بزوغ النيوليبرالية كنهج سيحكم العالم للعقود التالية، بينما كانت بدايتها تشهد تعاضد التيارات اليسارية المطالبة بالحقوق المدنية، والنسوية، والعرقية والصراع ضد الطبقية واللحظة الذهبية للثقافة المضادة، بخاصة بنماذجها الموسيقية. كان شغل صاحبنا الشاغل في عمله اللّاحق محاولة فهم الكيفية التي حدث فيها هذا الانتقال من اللحظة الاستثنائية في أوائل السبعينيات إلى السقوط التاريخي للثقافة المضادة في نهايتها. يدفعه السؤال الدائم: ماذا لو أنّ الاندماج بين الثقافة المضادة والسياسات اليسارية كان أكثر نجاحاً؟ وماذا لو أنه استمر؟ ثم هل يمكن إعادة خلق الظروف التي نشأت فيها تلك الثقافة المضادة من جديد وكيف؟
شُغف فيشر بهذا السؤال حول الثقافة المضادة بدأ من الموسيقى، ناقداً لها وكاتباً عنها في الصحافة، متأثراً في مراهقته بمجلة New Musical Express التي تأسست مطلع الخمسينيات متخصصة في موسيقى الروك، وتُعد اليوم علامة تجارية ومرجعاً مهماً. ومع حلول الألفية الثانية، بات «كي-بانك» الناقد الموسيقي الأكثر تأثيراً في عصره، مثلما اشتهر كقارئ لاذع وثاقب للتلفزيون والأفلام والفوتوغرافيا والثقافة الشعبية في العموم. وسرعان ما ظهر كمفكّر من نوع خاص يشقّ طريقه إلى أن يكون متخصصاً في إعادة قراءة الثقافة الشعبية والتاريخ الاجتماعي في بريطانيا، غير بعيد عن التأثر بخلفيّاته كابن عائلة بسيطة من ليستر، يعمل والده موظفاً ووالدته في التنظيف، نشأ بعيداً عن المدينة وعن الطفولة المرفّهة وعن السياسة، (يخلط بعضهم بينه وبين السياسي مارك نايجل فيشر، وبعضهم يعتقد مخطئاً أنه مؤلف كتاب «المليونير الفوري» المترجم إلى العربية). يذكر أصدقاء فيشر أنه كان من الجمهور الذي حضر «كارثة هيلزبورو» (1989) التي راح ضحيّتها في الاستاد المئات من مشجعي كرة القدم ما بين موتى وجرحى، وقد تركت الواقعة أثراً كبيراً فيه.
كان فيشر أيضاً في طريقه إلى أن يصبح من أهم الباحثين في فينومينولوجيا العصر الرقمي، يدرس علاقته بالاكتئاب والوحدة والتشتّت والضجر والزمن، متنبّهاً إلى أصغر التفاصيل وأدقّها، متتبّعاً جذورها السياسية والتاريخية. حالة يصفها كثير ممن كتبوا عنه بالطموح الواسع والمتطلع إلى بلوغ رؤية كاملة ثقافية وسياسية واجتماعية للحظة التي نعيش.
يكتب دارين أمبروس في مقدمة كتاب «كي- بانك» حول تلقّي كتابة فيشر بين أبناء جيله: «المثير في كتابة مارك في مدوّنته وفي المجلات والصحف (...) كان الشعور بأنه كان في رحلة: كانت الأفكار تسير نحو مكان ما. هناك صرح فكري ضخم في طور البناء. لقد شعرت برهبة متزايدة حين أدركت أنّ مارك كان يبني نظاماً. كان هناك شعور أيضاً أنه بينما كان عمله صارماً ومبنياً على معرفة عميقة، لكنه لم يكن أكاديمياً… جعلت كتابته كل شيء يبدو أكثر جدوى، مشحوناً بالأهمية. كانت قراءة مارك اندفاعاً... إدماناً».
لكن لماذا كانت بداية مارك من الموسيقى؟ هل يمكن لأحد الإجابة على هذا السؤال فعلاً؟ ربما نستخلص نوعاً من التفسير من محاضرته الأولى في كتاب «رغبة ما بعد الرأسمالية» حيث يقول «كانت الثقافة المضادة حينئذ (الستينيات والسبعينيات) مدفوعة في المقام الأول بالموسيقى، تلك الموسيقى هي التي قدّمت الرؤية لعالم متحرّر. كان هناك هذا النوع من حلقة ردود الفعل الإيجابية المباشرة، تغذّي الموسيقى النضال، والنضال سيغذي الموسيقى. وكان هذا أقرب إلى قوة موجهة لديناميات التحول في العالم الاجتماعي. وبالطبع، ليس من قبيل المصادفة، ولا سيّما في سياق الولايات المتحدة، أن الكثير من مصادر القوة في ثقافة الموسيقى الأميركية كان وراءها السود والطبقة العاملة». وفي حين ما زال السود يعانون في أميركا إلى اليوم، فقد هيمنوا على الثقافة الموسيقية الشعبية طوال الستينات أي قبل حتى أن يحصلوا على الاعتراف القانوني بالمساواة، ليخلص فيشر «إذن، الثقافة تقود الطريق أولاً، بعدة وسائل. هذه إحدى الطرق التي يمكننا من خلالها التفكير في التحدي الجمالي والتحدي السياسي».
الموسيقى والاكتئاب والرأسمالية؛ عالم تتحرك فيه كتابات صاحب «الغريب والمحيّر» (دار ريبيتر ـــ 2016)، مليئاً بالحديث عن الروك والبوست _ بانك والطبقية والوعي، والشعور بالخطر، وغياب الأمان، والأمراض النفسية، والمستقبل، والخيال، وضرورة تخيّل المستقبل، والذاكرة الجمعية، والنوستالجيا، والعنف وتاريخه، وماركس وأشباحه وأتباعه. بدأ مارك يتحدّث عن اكتئابه بشجاعة وصراحة منذ كتابه «الواقعية الرأسمالية» (منشورات زيرو بوكس ـ 2009)، وعلى الأرجح أنّ عمله على الكتاب بدأ من تنقيبه في دوافع ذاته الدفينة نحو الانهيار. شخّصه الأطباء بأنه مصاب بالـ «أنيدونيا» أو انعدام اللذة الاكتئابي. غير أنّ فيشر كان يرى اكتئابه جزءاً من اكتئاب جمعي أكبر تقف خلفه السياسات النيوليبرالية التي هيمنت على التعليم والمجتمع والسياسة والعمل. تلك السياسات التي تجعلنا نشعر بالجمود نحو الواقع والعجز تجاهه والانسحاق تحت شروطه التي تمس حياتنا يوماً بيوم، والسياسات نفسها التي تلغي المستقبل بشكل بطيء، وتخلق الرغبة في ثقافة معتادة ومعدومة الحس النقدي تقضي على إمكانات المستقبل، وتجعلنا نشعر نحوه بهذا البرود المعرفي والثقافي والنفسي، وأنّ لا بديل بعد الآن للنظام الرأسمالي الذي يقتلنا. يتحدّث فيشر في كتابه عن إصابة العالم بالنوستالجيا، وكيف وظّفت الرأسمالية الماضي بأن حولته إلى سلعة مثيرة للشفقة، بل إن الثقافة المضادة للرأسمالية نفسها أصبحت جزءاً مما يجري الترويج له والتشجيع على رؤيته كأنتيكا غير فاعلة، كوجبة مجمدة يعاد تسخينها والاستمتاع باستعادتها كذكرى أو كبرهان على اليأس.
صاحب مشروع فكري ثقافي سياسي تحرري من رأس المال والعمل والعبودية المعاصرة


المثير والممتع في كتابات فيشر التي تتناول مواضيع فلسفيّة وسياسية معقدة، أنها كانت تفعل ذلك وتقرأ الواقع والماضي والمستقبل من خلال الفنون المختلفة؛ السينما والموسيقى والمسرح والدراما والمحاضرات الوافرة، بالعودة إلى كتب والمقالات والأدب، هي الطريقة التي ميّزته عن أي منظِّر ثقافي من أبناء جيله. ظهر اكتئاب فيشر، الذي يحمل الدكتوراه في الفلسفة، في كتاباته من خلال حماسه لما يكتب عنه. حماس لم يخلُ من الشعور بالألم والخيبة يمزج فيه هواجسه ويبتعد فيه عن الصرامة الأكاديمية ليزعج نظراءه، ويترك لهم ثغرة ينتقدونه منها. يكتب في «أشباح حياتي» عن كريستوفر نولان، وغرانت جي، وجون أكومفرا، وباتريك كيلر، ومشروع موسيقى الـ «كير تيكار» وسلاسل الخيال العلمي في مراهقته. ينزلق إلى الماضي ثم يتذمر من سقوطه فيه. يقول إنّه لا يريد أن يظهر يائساً من عالم شبابه الضائع، ثم يستدرك أنّ الكثير من النتاج الثقافي الماضي لا يمكن صنعه أبداً في ظل الظروف النيوليبرالية الحالية. هكذا يندفع في كتاباته مثل نهر يتدفق بقوة وينهار فجأة مثل شلال. تسمح له بذلك معارفه الواسعة والمترامية، وجمهور نجم التدوين، كان أكبر بكثير من قاعات الجامعة وزملاء الأكاديميا. في صباح 13 كانون الثاني (يناير) 2017، عثرت زوجة مارك فيشر عليه جثة هامدة في منزلهما في فيليكسستو حيث كانا يربيان ابنهما الصغير جورج. كانت صحّته النفسية قد انهارت وأدخل إلى المستشفى قبلها بأسابيع. بعدما خرج، استمرت حالته في الانهيار، لكن النظام الصحي لم يكن يسمح بتقديم أي شيء، لمن يغادر المستشفى، بخلاف الدردشة على الهاتف مع طبيب عام. آنذاك، نشر موقع Ipswich Star تقريراً عن الإهمال في حالته، وفيه ذكرت زوجته إنه كان يحلم بأن يسكن في سوفولوك حيث كان يذهب في إجازات مراهقاً، وأن يجد عملاً من المنزل، وأن يمشي كل يوم محاطاً بالطبيعة، وأن يكبر ابنه الوحيد في الريف.
في الوقت الذي كان هذا هو حلم فيشر الصغير، بينما يصارع بشراسة مرضه النفسي، كان يعطي طلابه في «غولد سميث» حلماً أكبر عبر سلسلة محاضراته الأخيرة، ويفتش معهم عن خلاص ومشروع فكري ثقافي سياسي تحرري من رأس المال والعمل والعبودية المعاصرة، مات قبل أن يكمله معهم.
جمع طلابه أنفسهم بعد رحيله بثلاثة أيام وذهبوا إلى قاعة المحاضرة المعتادة وانتظروه أملاً في أن يكون انتحاره مزحة. لم يكن يمزح رغم أنه كان يحبهم أن يضحكوا في محاضراته. غادر العالم مثل شبح كان يطارد نفسه بنفسه. في القاعة الخالية شغّل طلابه تسجيلات الموسيقى الأخيرة التي نشرها فيشر على مدونته، كلها أغنيات ضد العمل والاستلاب. كلها أغنيات من الثقافة المضادة وضع عنواناً لها «لا مزيد من صباحات الإثنين البائسة».
«الكراهية ليست عدوك، الحب هو عدوك»، مرة كتب مارك في إحدى تدويناته، تفكر وأنت تقرأ هذه العبارة، رغم أنه كتبها في سياق مختلف، في الحب الذي ناصبه العداء، في المعرفة التي عذبته، في الاكتئاب الذي خرّب حياته... هاوية نيتشوية حدق فيها طويلاً قبل أن يقفز.