1
دفعت يافا باب الشُّرفة براحة يدها، وخَطَت داخل حيِّزها الصَّغير وفي يمناها كوب شاي يفوح بخاره وتسطع منه رائحة أوراق النَّعناع، وتحوَّلت إلى جانب السّور، إلى حيث تبدَّت لها رقعة زرقاء صافية من بحر يافا تمتدّ صافيةً من خلف مئذنة جامع العجمي القصيرة البيضاء الظَّاهرة على مرمى البصر عند نهاية طريق كالح تتناثر أشجار الحمضيَّات على جانبيه أمام أفنية البيوت القديمة المتطامنة المشادَة من الحجر الجيريِّ، مثل بيتها الواقع على إحدى نواصيه، ومرَّ فوقها سرب من الطُّيور واختفى من فوره من وراء المئذنة، وعند ذاك أخرجت هاتفها من جيب منامتها، وأولته لحظات قصيرةً قبل أن تضعه أمامها على حافَّة السُّور العريض، وشرع النُّور الهادئ لأجنحة الفجر في التَّوهُّج، بصحبة لحن المقدمة المنبعث من هاتفها، وأدنت كوبها من فمها بيديها المضمومتين، قبل أن تخفضهما ثانية مسندتين إلى الحافَّة، وأخذت تنعم بهذه اللَّحظات من الهواء الرَّائق المكيَّف طبيعيّاً قبل أن تشتدَّ عليها حرارة شمس الصَّيف وتُلجئها إلى مكيِّف غرفتها، ومع أنَّها كانت مستيقظةً منذ اليوم السَّابق وقد أخذت تحسُّ بالتَّثاقل، إلّا أنَّ وقع النَّسيم على وجهها، في تلك اللَّحظات، ورائحة الشَّاي العطرة، كانا يشعرانها بأنَّها تستطيع أن تكمل سهرها حتى الظَّهيرة إن أرادت، وقد كانت تعرف أنَّها سوف تقصد سريرها، بحكم العادة، في غضون ساعة أخرى، ولسوف تنام عليه دون أرق، بعد أن تغطِّي نفسها بالكامل بغطاء سريرها، فلا يبدو منها غير شعرها المبعثر، وغير جزء جانبيّ من وجهها المدفون في وسادة السَّرير الصُّغرى الممسكة بها إلى جانبها، ثمَّ وعندما تستيقظ، وحدها، وقت الظَّهيرة، في أيَّام إجازتها الجامعيَّة، كانت تختار أن تظلّ جالسةً على سريرها دون رغبة في القيام، ولشدَّما تحبُّ غرفتها، وتحبُّ هذا الذَّوق الذي أذاعته فيها، على بساطته الظَّاهرة، فأعلى مسند سريرها، المقابل بالعرض لباب الشُّرفة، تناثرث، في ترتيب فوضويّ، لوحاتها الورقيَّة القصيرة الملصقة بالشَّرائط اللَّاصقة، فلوحةٌ بالألوان المائيَّة تمثِّل طائرين على غصن، وثانيةٌ إسكتشٌ رصاصيّ يمثِّل وجهاً جانبيّاً لشابّ، وتبدو غير مكتملة إلى حدّ ما، وثلاثٌ أخرياتٌ، بأسلوب الجرافيتي، تمثِّل وجه مظفَّر النواب، ورضوى عاشور، وتميم البرغوثي، وأخرى مصوَّرةٌ لباسل الأعرج مبتسماً للكاميرا بصفَّي أسنانه البيضاء الكبيرة، وورقةٌ من كرَّاسة مسطَّرة كُتب عليها بخطّ ديوانيّ شطر بيت نصُّه: «كلَّما أظلم الزَّمان أضاءوا»، وخلا الحائط العريض الملاصق لعرض سريرها إلَّا من لوحة مستطيلة مؤطَّرة بإطار أسود عريض ذي نقوش إفريقيَّة، ابتاعتها قبل عامين من سوق الرَّابش فور أن وقعت عيناها عليها، تمثِّل راقصتين إفريقيَّتين تؤدِّيان، على قدم واحدة، إحدى رقصاتهما بثيابهما التَّقليديَّة الزَّاهية على إيقاع عازف طبول يجلس على ركبتيه بجوارهما؛ وهناك على المنضدة القصيرة بجوار سريرها علت كومتان من الكتب في نظام مرتجل بجانب مزهريَّة أرجوانيَّة اللَّون بها زهورٌ نصف ذابلة، وكانت الكتب في الكومتين نحوَ ثلاثين كتاباً، برزت منها، وكانت على قمَّة إحدى الكومتين، روايةٌ ضخمةٌ مكتنزة الصَّفحات لستيفن كينج، بالإنكليزيَّة، بدا واضحاً من تجعُّد غلافها الورقيِّ وتقطُّعه عند الكعب، أنَّ صاحبتها صرفت في قراءتها الكثير من وقتها، وتلتها أسفلها رواية «موبي ديك»، والتي بدا من الخطِّ المتجعِّد الأفقيِّ الوحيد الشَّاحب في أعلى الكعب أنَّ صاحبتها سئمت من إكمالها عند صفحاتها الأولى، فيما استقرَّ على قمَّة الكومة الأخرى كتابٌ أسود لامع وجديدٌ لقصص كافكا القصيرة، بالإنكليزيَّة، وتحته يظهر واضحاً كتاب «النَّبي» لجبران، و«السَّفينة» لجبرا، وظهر في أسفل الكومتَين أيضاً كتاب إدوارد سعيد «السُّلطة والسِّياسة والثَّقافة»، بحجمه الكبير وكعبه المتجعِّد، وكتاب جورج حبش «الثُّوَّار لا يموتون»، وديوان الأعمال الكاملة لكمال ناصر، ومريد البرغوثي، وقد حُشر بينهما، حتى لا يكاد يُرى، ديوان «في القدس»، الصَّغير الحجم، لتميم البرغوثي، ثمَّ أحد عشر كتاباً ما بين رواية وأقاصيص ودراسات أدبيَّة ورحلات، لرضوى عاشور، يعلو بعضها بعضاً من دون فاصل من كتاب غريب عنهم، وقامت، على الجدار المقابل ناحية باب الغرفة، المرآة على حاملها الخشبيِّ، بجانب خزانة الملابس ذات الرَّفِّ العلويِّ المكتظِّ حتى سقفه بعلب الألوان والأقلام والفرش ودفاتر لوحات الرَّسم، وأمامها على الجدار المقابل بالقرب من باب الشُّرفة قبع مكتب دراستها الصغير والمرتَّب. ومضت برهةٌ من الوقت قبل أن يتناهى إلى سمعها، من أسفل الشُّرفة، صوتٌ رتيبٌ وخفيضٌ لمحرِّك درَّاجة ناريَّة، جعلها سكون الصَّباح تسمعه بوضوح، حتى رأتها وهي تقترب ثمَّ تتوقَّف أمام البيت، ويترجَّل منها راكبها، بقوامه الرِّياضيِّ، قاصداً بوَّابة الحوش الزَّرقاء، وعند ذلك تناولت هاتفها في سرعة، مُطفئةً ما كان ينبعث منه من صوت الأغنية الخافت، وتوجَّهت إلى داخل غرفتها، واضعةً كوب شايها على مكتبها، ومتناولةً غطاء رأس وضعته دون إحكام حول رأسها، وقصدت صالة البيت الخالية، وتوجَّهت في خطوات خفيفة الوقع نحو باب البيت، ومدَّت يدها إلى علَّاقة مفاتيح جداريَّة مطرَّزة يدويّاً بنقش فلسطينيّ فلَّاحيّ، متناولةً ميدالية مفاتيحها، قبل أن تعالج قفل الباب برفق، وتنزل درجات السُّلَّم الدَّاخليَّة وتعالج الباب الحديديَّ، وتتوقَّف أعلى السُّلَّم الرُّخاميِّ ذي الدَّرجات الواسعة وتستند إلى درابزينه الذي من حديد أسود مشغول، ناظرةً في هدوء إلى الشَّابِّ المتقدِّم نحوها، والذي ما إن رآها حتى تجمَّد في موقعه للحظة قصيرة مرتبكة، وسرعان ما واصل سيره الطَّبيعيَّ صوبها مبتسمًا: — أخفتِني! ألا تنامين أبداً؟! قالت في لوم متغضِّب:
— تأخَّرتَ ثانيةً. توقَّف عند بلوغه أسفل درجات السُّلَّم، وقال بابتسامته نفسها:
— وأين سأتأخَّر؟ كنت في عملي.
قالت في تحدّ: — حقّاً؟! ألم ينته العمل في البار قبل ثلاث ساعات؟
مازحها: — أكنتِ هناك معي؟
ألقت إليه نظرةً ممعنةً ولم تعقِّب، بينما شرع يصعد سلالم البيت الخارجيَّة، حيث وقفت أعلاها، وبادرها:
— هل عاد بابا؟
أسرعت: — إنَّك كلَّ يوم.. قاطعها وقد أدرك، مرتاحاً، أنَّ والده لم يعد بعد: — بالله، يكفيني مجادلة واحد منكما! وتجاوزها برفق إلى الباب، وهمَّ بصعود السَّلالم الدَّاخليَّة، قبل أن تلتفت إليه قائلة:
— أترغب في الاستمرار هكذا إلى الأبد؟
تحوَّل إليها: — وإن قلت لا، أيفرق؟!
— كانت أمورك جيِّدةً في الحجِّ كحيل.
قال في مزاج حسن حرص على ألَّا يفسده شيء:
— جيِّدة؟! أنسيتِ سريعاً أنَّني كنت أقترض من أصدقائي لأجدِّد اشتراك الصَّالة؟
عارضت بإصرار: — كانت الدُّنيا تمشي.
قاطعها في مداعبة: — نعم، من سيِّئ إلى أسوأ. وتابع برفق: — ولا أفهم لماذا يضايقك الأمر إلى هذه الدَّرجة! لست إلَّا حارساً يقوم بعمله هناك، كما في أيِّ مكان آخر، ولا شيء سوى هذا، وإذا تأخَّرت فلأنَّني آخر مَن ينصرف، قلت لك هذا من قبل.
والتفت يصعد درجات السُّلَّم دون انتظار ردّ منها، وفي تجهُّمها العارض تناهت إلى أذنها تكَّة باب علويّ يُفتح ويُغلق في خفوت لم تخطئ سمعه، ولبثت برهةً ثمَّ خطت بدورها إلى الدَّاخل وامتدَّت يدها لإغلاق الباب الذي تقف عنده، وعند ذلك أصدر هاتفها في جيبها صوتاً خافتاً، فتناولته ونظرت إلى شاشته التي أُنيرت بسبب صوت الإشعار الجديد، وطالعت نصَّ الرِّسالة الواردة على شاشة القفل: «خالد: صباح الخير يا يافا» «أم يجدر بي القول تصبحين على خير؟»
وتبع هذا رمزٌ لوجه باسم مفترِّ الثَّغر، فزالت ملامح تجهُّمها في لحظة خاطفة، لتحلَّ محلَّها ملامح ناعمةٌ مبتسمةٌ، تبقَّت آثارها وهي تسرع فتغلق الباب خلفها ثمَّ وهي تصعد درجات السُّلَّم خلف أخيها، في خطوات واسعة اهتزَّت لها حلية سلسلتها الذَّهبيَّة التي تماثل في خطوطها الخارجيَّة خطوط خريطة فلسطين.
وضحك الصَّباح خارج الأبواب.
* من رواية «صباح الخير يا يافا» الفائزة بـ «جائزة الرافدين للكتاب الأول»