لا ريب أنَّ الدراسات التاريخية الدقيقة والمشرقية (أي التي يقوم بها كتّاب وباحثون مشرقيون وبتمويل مشرقي) باتت قليلةً للغاية، إذ إن ظروف المنطقة الملتهبة تحول دائماً دون ذلك. على الجانب الآخر، هناك بحوث غربية كثيرة، لكنها تميل دائماً للمحتلّين/ الغزاة، فضلاً عن تقديم رواية/قصة يريدها الغرب في كل الحنايا. كتاب الباحثة السورية ديما أشقر «السُّرُجُ في سورية خلال العصر الروماني (64 ق.م. -324م)» (دار «كتب» ــ يقع في 271 صفحة من القطع الكبير) الذي أُعدّ أساساً كرسالة لنيل درجة الدكتوراه في الآثار الكلاسيكية والإسلامية من جامعة دمشق، يعتبر واحدةً من هذه الدراسات «المشرقية» التي تضيء على حضارة هذه البلاد بطريقةٍ مباشرة لا لبس فيها.

تأتي أهمية السُّرُج (مفردها «سراج» كان يُستخدم للإضاءة في العصور السابقة) مرتبطةً بالضوء، النار والنور، مما يجعل صلتها بالحضارة صلةً واقعية/ منطقية. استخدمت السُّرُج أساساً في إنارة المنازل، لكنّها تطوّرت في العصر الروماني، فأصبحت تنير «الطرق والأسواق التجارية ليلاً». وقد استخدم بعضها - بحسب الكتاب - كنذورٍ للآلهة الوثنية القديمة، وكجزءٍ من الطقوس الجنائزية في المنطقة، كونها تضيء الطريق أمام الميت، ناهيك باستخدامٍ لا يعرفه كثيرون وهو «الترويج». وفق الباحثة، فقد استخدمت أيضاً كأداةٍ دعائيّة في العصور الرومانية من خلال «تزيينها» بتصاوير للآلهة، وبعباراتٍ مقدسة، وحتى بأسماء أدباء وشعراء وفلاسفة رومان ويونان (كفيرجيل وديوجانس) وحتى وصلت الحالة إلى رسومٍ فكاهية وعباراتٍ تحفّز الزبون على شرائها. هذا بخصوص الإستخدام، أما بخصوص السبب في التركيز على دراسة السُّرُج، فتشير الكاتبة إلى أنَّ السُّرُج «تعدّ من أهم اللُّقى الأثرية المستخدمة في تأريخ الطبقات الأثرية، وفي تحديد العلاقات التجارية القائمة بين البلدان والمختلفة والطرق التجارية التي تربط بينها». وتعلّل ذلك بأنَّ السُّرُج مكتشفة بكمياتٍ كبيرة، لذلك يمكن دراستها من دون خوفٍ من فقدانها، خصوصاً أنّها محفوظة بشكلٍ جيد، ومردّ ذلك لمادة الفخّار التي صنعت منها والمقاوِمة لعوامل الزمن.
ستخدم بعضها كنذورٍ للآلهة الوثنية القديمة


يقوم الكتاب على ثلاثة فصول كبيرة يتناول أنواع ونماذج السُّرُج العائدة إلى العصر الروماني، فضلاً عن دراسةٍ تحليليّةٍ (الفصل الثاني) لمجموعة السرج السوريّة، فيما يقوم بدراسةٍ مقارنة بين نماذج السُّرُج السوريّة والنماذج الرومانية في حضور المتوسط. بدءاً من مقدّمة الكتاب، تحاول الكاتبة تسليط الضوء على فكرة أصالة الحضارة، مشيرةً إلى أنّه «لا يخفى على أيّ عالم آثار أو حتى على أيّ مهتم بالقطاع الأثري مدى أهمية سوريا كواحدةٍ من أغنى بلدان العالم بالمواقع الأثرية العائدة إلى كل الفترات الزمنية التي عاشتها البشرية»، معلّقةً على الواقع المعاش: «مع اندلاع الحرب ضد سوريا (بداية العام 2011)، لم يسلم قطاع الآثار من براثن هذه الحرب المدمّرة، وأصبح العديد من المتاحف والمواقع الأثرية مرتعاً لأفراد عصابات الإتجار غير المشروع باللُّقى الأثرية. خسرت سوريا خلال هذه الحرب من إرثها الحضاري ما لا يقدّر بثمن، وأصبحت لُقاها المسروقة تُباع علناً في كل أنحاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، من دون أي رادعٍ أخلاقي». تكمن أهميّة هذا النص/ المقدّمة في أنّه يضع القارئ أمام أهمية دراسة مماثلة: إذ لا ضاع حقٌ وراءه مُطالب. إن معرفة المرء بما في بلاده من آثارٍ وذكريات وتراثٍ «حجري»، تجعله قادراً على المطالبة به ودحض رواية «اللصوص» الذين يسرقونه ويبيعونه «علناً ومن دون أي رادعٍ أخلاقي». يغوص الكتاب الذي يمكن اعتباره كتاباً عاماً، أي أنه ليس للمختصين فقط، في تقديم فكرة «السراج« وكيفية تفنّن القدماء في تصنيعه. يستفيض الفصل الأوّل في أنواع السُّرُج، ليتفرّع بعدها إلى ثلاثة أقسام الأول يشرح أهمية السُّرُج وسبب استخدامها، ثم في القسم الثاني، كيفية تطورها منذ ظهورها وصولاً إلى العصر الروماني، مع تناول أهم نماذجها (الغربية قليلة العمق والهلنستية المقولبة)، فيما يتحدّث القسم الثالث عن تلك العائدة إلى العصر الروماني (بدءاً من المبكرة وصولاً إلى العصر المتأخر وحتى العهد الإمبراطوري). يأتي بعد ذلك الفصل الثاني مع دراسةٍ تحليليةٍ شاملةٍ للسُّرُج السورية التي تمت دراستها في هذا البحث، فتتحدث عن النماذج المألوفة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية ككل، ثم تنطلق من هناك إلى تلك المنتشرة في بلاد الشام، متناولة الرموز والتصاوير الزخرفية التي تحملها السُّرُج المدروسة، وكذلك التواقيع الموجودة على القواعد.
في الفصل الأخير، تقيم أشقر مقارنةً بين نماذج السُّرُج السورية وتلك الرومانية في حوض المتوسط، آخذة نماذج من شبه الجزيرة الإيطالية (أي إيطاليا اليوم)، وبعض النماذج مثل السُّرُج النبطية وتلك المكتشفة في تدمر وشمال فلسطين وجرش، وتلك الموجودة في متحف اللاذقية والكثير غيرها. وناهيك بالشرح المستفيض لأشكال السُّرُج وأنواعها، تضع الباحثة السوريّة مئات الصور (ضمن صفحاتٍ ملوّنة في قلب الكتاب) لتلك السُّرُج التي تتكلّم عنها وتشرحها قطعةً قطعة داخل الكتاب كي يتمكن المشاهد/ القارئ من ربط الفكرة بالصورة. هذا النوع من التأريخ/ البحث العلمي يفيد - وقبل أي شيء - في حفظ هذا التراث والمراكمة على ذلك بإعادته إلى مكانه وأصحابه الأصليين.
في الختام، هو كتابٌ/ بحثٌ شديد الأهمية والدور، فأي عملٍ يحمي تراث هذه المنطقة، ثقافة أهلها، وحضارتهم هو عملٌ «مقاوم» على طريقته، ذلك أنَّ سارقي الحضارة يحاولون بشتى الوسائل والطرق سلب المنطقة تراثها وربطه بأي حضارة أخرى، فالمهم بالنسبة إليهم ألا يكون له جذرٍ لسكان هذه المنطقة الأصليين من كنعانيين وسوريين وعرب.