لطالما كانت رقعة الشطرنج ساحرة بأشكالها المختلفة وقطعها المميزة، ذاك الرونق الأنيق والمتداخل بين الأسود والأبيض، حيث يظهر التناقض والنزاع بين قطعها إذا ما اصطفّت وجهاً لوجه. لا يمكن نكران اهتمام الأفراد وإعجابهم بها، ولا سيّما السياسيين ورواد المجتمع النخبوي. حتى ممن لا يجيدها، تجده يضعها في صالونه متمركزة في غرفة جلوسه، محتلة مكانتها على الطاولة الأساسية أو على المكتب، الافتخار بها، لا لممارستها، بل للتباهي بها كتحفة نادرة. وينطبق الأمر، بل ينسحب على حاجة الدول إليها، كما السلطة الممثلة من ورائها. فاللعبة عبارة عن مزيج بين التكتيك واللّاستراتيجية، الرؤية، والتضحية، بعد النظر، المناورة، المراهنة على الأخطاء، الصبر، الاستسلام، واستغلال الوقت... وصولاً الى ما يجعلها لعبةً تتجاوز بأبعادها المنطق الكلاسيكي للتنافس بين اللاعبين والدول على حدّ سواء. وقد كتب الكثير عن تلك اللعبة الساحرة، وأهميتها في تاريخ الأمم، حيث عمدت الدول الحديثة الى التمسك بنسب تلك اللعبة. هذا ما حدث منذ القدم إلى يومنا هذا، وهو منطقي، إلى حين ظهور دول الغرب بشكلها الحدّي (بعض دول أوروبا والولايات المتحدة على رأسها) بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ووضع يدها على كل ما يمكن أن يمت للحضارة والتاريخ بصلة. وتشكل جوائز الشطرنج أداةً مادية ومعنوية يجب العمل على وضعها في خزائن أقطاب الدول المسيطرة على صدارة هذا العالم المختلّ التوازن.في هذا السياق، وللأسف الشديد، ومما شكل إحباطاً وجبت مواجهته سينمائياً لدى المجتمع الغربي (الأميركي تحديداً)، أن أسياد هذه اللعبة لا يمتّون إليها بصلة. وإذا ما سئل أيّ فرد بسيط من المجتمع عن حضور هذه اللعبة، لأجاب بدون تردد: الروس، ومن قبلهم السوفيات. ما زال اسم كاسباروف الأشهر إلى يومنا هذا... طبعاً، بالنسبة إلى صانعي الأفلام، وشركات الإنتاج الغربية، هذا أمر جلل، وتجب معالجته عبر كتابة نصوص، واستنباط بعض القصص، والروايات لتحويلها إلى أفلام تسويقية تناسب حكّام العالم الحر. وهذا ما حصل عندما أُنتج فيلم «تضحية البيدق» سنة 2014 من بطولة وإنتاج توبي ماغواير، بطل سلسلة «سبايدرمان». جسّد ماغواير لاعب الشطرنج الأميركي بوبي فيشر ومباراته الشهيرة سنة 1972 ضدّ الروسي بوريس سباسكي خلال الحرب الباردة. علماً أن فيلماً أُنتج سنة 1993 عن حياة بوبي فيشر اسمه «البحث عن بوبي فيشر»، إضافة إلى وثائقي أُنتج سنة 2011 بعنوان «بوبي فيشر يواجه العالم». طبعاً، ومن دون جدل وإطالة في الشرح، تفاصيل الأفلام تصبّ في مصلحة السياسة الأميركية، والحلم الأميركي، وتسخير أصغر التفاصيل للمصلحة العليا للمؤسسة الأميركية. هكذا يظهر على سبيل المثال هنري كيسنجر، مع ما يمثل في سياسة أميركا، محمّساً اللاعب الأميركي، متدخلاً، وموضحاً له أن ما يقوم به يتعدّى اللعب إلى ما هو أبعد. أما بالنسبة إلى الصورة النمطية لـ «لاعب الشطرنج» أو لـ «الشرير السوفياتي»، فهذا أمر مفروغ منه: التشويه معدّ، محضّر وجاهز، لا يحتاج إلى الشرح، يبدأ من الحضور العسكري- الأمني الظاهر من خلال الزي الجلدي، إضافة إلى العجرفة بأبهى حلتها، ناهيك بقليل من الوحشية التي تظهر من وقت إلى آخر للتأكيد والتذكير كي تنفع الذكرى، وأي تفصيل قد يحتاج إليه المشهد والسيناريو لذمّ الثقافة الروسية... حتى يقول المشاهد الحيادي البسيط، إنّ هذه اللعبة الراقية لا تمتّ إلى أولئك الرعاع الروس بصلة، كما هي الحال في فيلم The Luzhin Defence (المقتبس عن رواية فلاديمير نابوكوف)، الذي أُنتج عام 2000 من بطولة جون تورتورو الذي لعب دور ساشا لوجينج. يصوّر الشريط البطل الروسي مضطرباً وغير موزون، وهو ما يظهر على معظم لاعبي الشطرنج في معظم الأفلام. الأمر ينطبق على فيلم The coldest war للمخرج البولندي لوكاس كوزمكي، حيث أُقحمت الجاسوسية في مباراة الشطرنج عام 1962، وتجسيد النزاع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، فاستخدمت الجملة بوضوح في أحد المشاهد، وفي خضم النقاش قبيل التحضير للمباراة، إذ يسأل الدبلوماسي الأميركي دونالد نوفاك (مثّل دوره كوري جونس): «هل هذا هو الشخص الذي تريدنا أن نكسب الحرب الباردة من خلاله؟»، في إشارة منه إلى السكير جاشوا مانسكي (لعب دوره بيل بولمان) أستاذ الرياضيات المطلوب منه اللعب ضد البطل السوفياتي في وارسو قبيل أزمة الصواريخ الكوبية.
الأفلام التي أُنتجت عن لعبة الشطرنج تصبّ في مصلحة الحلم الأميركي ضدّ الروس


وأخيراً، ظهر على شبكة نتفليكس ـــ مع كل ما تشكله هذه الشبكة من جدل حولها وحول إنتاجها ـــ مسلسل «مناورة الملكة» أو The Queen›s Gambit. القصة مأخوذة كما بات معلوماً عن الروائي الأميركي والتر تيفيس عام 1983 الذي صوّرت أكثر من رواية له كفيلم. جاءت الرواية سباعية الحلقات، في مكانها، وزمانها بعد أربعين عاماً على صدورها. إذ حملت السلسلة الطموحات الغربية المسلوبة من الشرق، وأعادت صياغتها في قالب جديد.. إذ ليس من أبدع أن تكون أميركياً مولوداً في الستينيات، قادراً على مقارعة أسياد اللعبة في عقر دارهم... بل أي خيال أكثر إبداعاً من أن تكون صبية يتيمة تُدعى اليزابيت هارمون- بيث (أدّت دورها آنيا تايلور-جوي صاحبة الـ24 ربيعاً والمعروفة أيضاً من خلال مسلسل Peaky Blinders، وأفلام كـ Split و The Witch). لم ينسَ المخرج الأميركي سكوت فرانك التشديد على مأساة الطفلة العائلية المعقّدة من اليتم إلى التبني القسري، مروراً بتعلّم الشطرنج عبر البواب (لعب دوره بيل كامب). هذا ما يجعلها بطلة غربية فوق العادة – وهو ما يناسب مقارعة أقران بمستوى الروس. وقد يكون للمخرج خياله الخاص، وما يناسبه في هذه المسألة، فقد اعتاد على تظهير شخصيات صاحبة قدرات خارقة، إذ أخرج فيلم هيو جاكمان Logan و The wolverine عن البطل الخارق الأشهر من MARVEL. كان يجب على البطلة اليافعة المدمنة على عقار مهدّئ يجعلها في حالة استرخاء – كعادة معظم لاعبي الشطرنج في الأفلام الأميركية - أن تتخلص من الأبطال الأميركيين واحداً تلو آخر لتصل إلى لبّ الصراع المقصود والمتجسّد في الغريم الروسي بورغوف (أدّى دوره مارسين دورونسكي)، حيث تبدو البطلة الأميركية كأنها ابنته من ناحية العمر... حاول المخرج الإضاءة على التكامل، والتعاون الأميركي الظاهر في رواية الفيلم، ناهيك بمرونة الأبطال الـCool. كأنّ اللاعبين الأميركيين يشكلون، بل يمثلون الولايات الأميركية المتعاطفة مع بطلة السباعية، فيساعدونها في مباراتها الأخيرة للفوز (طبعاً) على بطل خشبي الملامح من أبطال المخابرات السوفياتية. الطريف أنّ بطل العالم الروسي كاسباروف هو الذي تمت الاستعانة به كمستشار من أجل دراسة خطوات اللاعبين...
الدفاع عن الروس كأسياد لعبة الشطرنج هو أمر أخلاقي، ولا سيما أنّ العرب يحبّذون لعب طاولة الزهر المعتمدة على الحظ. لكن لا ضير من إنتاج فيلم يظهر فيه الفتى الإيراني علي رضا فيروزا صاحب الأعوام الستة عشر فائزاً فيه على بطل العالم النرويجي ماغنوس كارلسن.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا