«في الواقع، المشكلة مع السينما والأفلام التي أشاهدها والمؤلّفين الذين أحبهم وأثّروا على ثقافتي السينمائية، تكمن في السؤال التالي: كيف تصنع فيلماً من دون الدوران في حلقة مفرغة؟ فالفيلم هو مزيج من العمل الدؤوب والمعاناة لإنتاج عمل إبداعي. ربما يرجع ذلك إلى أنّ الأشخاص الذين يتفرغون لصناعة الأفلام ليس لديهم وقت كافٍ ليعيشوا حياتهم، فتكون السينما متجذرة في عالمهم الداخلي حتى يصلوا إلى التساؤل: متى أضع حياتي الشخصية على الشاشة أو متى وكيف تؤثر السينما على حياتي اليومية؟ هذا تداخل قويّ للغاية. لا أعلم إن كان صنّاع الأفلام وروّاد السينما اليوم، يخصّصون مساحة خاصة بهم للعيش». هذه الجملة قالها المخرج اللبناني مارون بغدادي (1950 ـــ 1993) في «مهرجان كان» عام 1982، وتحديداً في فيلم «الغرفة 666» للمخرج الألماني فيم فيندرز حيث أجلس فيندرز 15 مخرجاً عالمياً على كرسيّ في غرفة وطرح عليهم سؤالاً واحداً: «هل السينما لغة على وشك الضياع، فن على وشك الموت؟» وكان هذا جواب بغدادي. في جوابه دلالة كبيرة على ما واجهه بغدادي في حياته السينمائية. لا أعتقد أنه استطاع أن يفصل بين حياته الشخصية، وما يعكسه على الشاشة. بغدادي كان ضائعاً ومتعباً مثل شخصياته. هو من المخرجين الذين نشأوا مع الحرب، حتى إنه تنبأ بها. حتى موته يشبهها. تعثر وسقط في منور درج «بناية سماحة» في منطقة التباريس بسبب انقطاع الكهرباء. لم يكتشف أحد موته إلّا بعد أيام. تكمن سينما بغدادي في توثيقها لأهم مرحلة من تاريخ لبنان الحديث. حملت صورته قضايا لا تُحصى عن المفاهيم والانتقادات والتطلعات للبنان والحرب. صورته عبثية وكثيفة تماماً كالحرب. سينماتوغرافيا بغدادي تشمل ثمانية أفلام طويلة و13 فيلماً وثائقياً وعشرات الأفلام القصيرة والعديد من تسجيلات الفيديو.وصل بغدادي إلى لبنان من باريس في آذار (مارس) 1975، صوّر فيلمه الأول «بيروت يا بيروت» الذي تنبأ بالحرب، واصفاً التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها بيروت على خلفية الأحداث التي حصلت بين أول غارة إسرائيلية على الأراضي اللبنانية عام 1968 وموت الرئيس المصري جمال عبد الناصر عام 1970... ومعه الانفجار الديموغرافي، والصراع الطبقي، والتدخل الأجنبي، والاختلافات الدينية، والوضع في جنوب لبنان. عمل استباقي للحرب اللبنانية، عشية اندلاع الصراع. يعيد الفيلم بناء ظهور الحركات المناضلة والمقاومة من خلال حياة أفراد من خلفيّات اجتماعية ومذهبية مختلفة. إنها قصص حبّ مستحيلة في آن، وقصة شابة لبنانية ممزقة بين رجلين، في مدينة هالكة.
في أيلول (سبتمبر) 1975، اندلعت الحرب التي كان بغدادي يكرهها. وجد نفسه في خضم حرب لا مَخرج منها، وعلى كاميرته توثيقها. إنها «السينما البديلة» التي كان بغدادي أحد روادها... سينما تعكس حكايا يومية. ركّز في أفلامه على الطبيعة غير العقلانية للحرب، على العنف العبثي حيث الجميع خاسر، وكيف أدت الحرب الأهلية إلى انحدار تدريجي ونزع الإنسانية عن الجميع.
أسّس بغدادي لموجة أصيلة وحديثة في السينما اللبنانية. كانت أفلامه صوت جيل معاصر للحرب، جيل مزّقته بيروت يكافح من أجل هويته وهويتها. طليعي هو بغدادي، أفلامه ملتبسة، كشخصيته وشخصيات أفلامه، التي تسعى لتشكيل الذات والوطن. جميع الشخصيات في أفلامه تخوض حروباً صغيرة، وهو عنوان فيلم قدمه عام 1982. «حروب صغيرة» هو الجزء الثانوي للحرب، وللمخطط الأكبر. فيلم ضبابي يمكن لأيّ شخص غير لبناني أن يجده خيالياً، لكنه واقعي. فيلم رشيق يبدأ ببطء ويتّضح تدريجاً ويمشي بعدها برشاقة، والنتيجة شريط مليء بالتوتر والتباين، وصورة مضطربة ومعقدة وتلميحات لقرارات صعبة أياً كان من يتخذها. في الفيلم، الشخصيات عاجزة عن الاختيار، تتردد بين المغادرة والبقاء، بين رفض العنف وقبوله، بين الالتزام والتسوية. صوّر بغدادي الواقع، صوّر الحرب التي أدانها سينمائياً. لم ينحَز لطرف، ولم يحرّض أحداً على أحد، فجميعنا ضحية إلى الآن. أنتج فيلماً عن الإنسان في الحرب، تجنّب الجدال الكبير. قال عن شريطه يومها: «بيروت مدينة الهذيان. يمكنك أن تصنع حياتك هناك. ترى الحرب والموت أشياء مبتذلة وطبيعية. إنه وضع غير صحي. شخصياتي الثلاث تبدو مثل الجميع. لبنانيون لكن لكلّ منهم خصوصيته.. في سن طلال، كان الجميع يحلم «بقتل الأب». أن تكون أسطورياً مثل نبيل يعني أن تلعب دوراً في الحياة. ولن يكون لثريا، البرجوازية، مكانها في الحرب أبداً مثل البرجوازية».
لعلّ أكثر أفلام بغدادي التي جسدت الحرب والخطف هو «خارج الحياة» (1991- جائزة لجنة التحكيم في «مهرجان كان»). يروي الأخير القصة الحقيقية لمصور فرنسي اختُطف في بيروت. نتعرف فوراً إلى البطل ونعاني معه. نصبح عاجزين مثله، وننتظر الإفراج. في الفيلم، يحمل الخاطفون المصوّر المخطوف كحزمة، يتحركون في مدينة جهنمية، هم أيضاً مخطوفون، منغمسون في الحرب، وفي طبيعة تؤلمنا وتؤلمهم وتؤلم المصور. بإخلاص شبه مطلق للرواية التي كتبها بطل القصة الحقيقي، قدم مارون فيلمه. أجبرنا على رؤية ما لا نريد أن نراه، عشنا غياب الحرية. من الصعب أن نجد فيلماً لبنانياً يثير الغضب والخوف ورهاب الاحتجاز والحرارة والعطش والعرق والحساسية مثل «خارج الحياة». كل ما حصل في الفيلم يوقظ غريزة عن علاقة غريبة، علاقة جذب ونفور بين أبطالها. لم يكن بغدادي متفائلاً في فيلمه الأخير «أفلامي لا تناسب الجميع». كان دوماً حائراً كيف يمكنه أن يعطي صورة جميلة عن لبنان. قال: ««خارج الحياة» مثل النافذة المفتوحة، خارج حبس الرجل، نكتشف قصاصات بلد ما». هذا البلد الذي تركه بغدادي وعاد إلى باريس. قبل وفاته، كان يعمل على سيناريو فيلم آخر بعنوان «زوايا»، كان يمكن أن يصالحه مع وطنه الذي عاد السلام إليه... هل عاد فعلاً؟!

* أفلام مارون بغدادي «خارج الحياة» و«بيروت يا بيروت» و«حروب صغيرة» و«همسات» و«كلنا للوطن» على نتفليكس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا