«يتم التنديد بالنظام من داخل النظام نفسه»
(جاك دريدا)

«المعرفة، السلطة، الإنشاء». تلك هي الركيزة البحثية التي استند إليها إدوارد سعيد خلال تفكيك الخطاب الاستشراقي وأدبياته المهيمنة في مؤلفه الشهير «الاستشراق» (1978)، متقفياً بذلك أثر سلفه الفرنسي ميشال فوكو، ومستعيناً بأدواته البنيوية. وإذ كان لهذه الثلاثية وقع كبير على انشغالات رواد العقد الفائت ومؤلفاتهم، إلا أنها لا تزال تختزل راهناً أوجدته مخلفات الحقبة الكولونيالية وصقلت معالمه بدقة. اللافت إذاً، أن معظم المساعي الغربية لفهم جذور الخطاب الاستشراقي، وخصوصاً الإسرائيلي منه، واتصالهما بالقطر العربي والتمثيلات المنمطة عنه، كانت تستثني قبلاً، عن قصد أو بدونه، دور علاقات القوة في عملية الإنتاج المعرفي. هكذا إذاً، تمكن اللوبي الصهيوني من فرض سرديته الاختزالية المختلَقَة، وإسنادها بمرجعية شعبية وأكاديمية راسخة، غدت في ما بعد فرضاً واقعاً لا يمكن تجاوزه.
في الحقيقة، لم يعد ممكناً الانغماس في تفنيد مرحلة ما بعد الاستعمار ورصد ملامحها، من دون الاتكاء على نموذج الاستيطان الإسرائيلي، باعتباره لاعباً محورياً وفاعلاً ومتواطئاً في أحجية الهيمنة المعاصرة، لا بل انعكاساً حقيقياً لسياساتها العالم ثالثية. إلا أن نقداً كهذا، يستوجب قراءات مرحلية معمقة، تكتنف مجمل جوانب المفهوم الاستعماري ومكوناته الثقافية، لما لها من دور في تكريس التبعية والاضطهاد ورفدهما بالمسوغات الفكرية اللازمة. ولعل معاينة لسيرورة الحملات الإعلامية التي أفرزتها المضخات الترويجية الإسرائيلية على مدى القرن الفائت، تكفي لاستدراك حجم المجهود الذي يطوعه الاحتلال لدرء أكبر قدر من الشبهات عن صورته واستمالة الرأي العام الغربي، بما يتوافق مع المنطق الاستشراقي المزغول عينه.


ولما كانت استراتيجية التضليل المعهودة هذه مقرونة بالمقاربات التسطيحية المستوردة لماهية النضال وأدواته، تلك التي لا تولي اعتباراً لامتداد هذا الأخير المادي والطبقي (أمر متوقع على أي حال)، فإن قضايا مجتمع «الميم»، كغيرها من الملفات الحقوقية «الرائجة»، لن تكون استثناءً عن القاعدة بطبيعة الحال. ما انتهجته حكومة الكيان الصهيوني، وخصوصاً جناحها اليميني، في سبيل تطويب تل أبيب فردوساً للمثليين والمثليات من الأصقاع كافة، والتستر على سجلها الحافل بالبطش والتعسف، منذ 2005 حتى اليوم، تموضع ضمن مسارين: أولهما تمثل في حملات دعائية مكثفة اتخذت من Brand Israel عنواناً لها، ترعاها وتمولها الحكومة الإسرائيليّة ووزارة خارجيّتها، وتنظم هيكليتها شركات دعائية أميركيّة وصهيونيّة منبثقة من شمال أميركا، آسيا وأوروبا، كما أخرى إسرائيلية. إجراءات «الغسيل الوردي» هذه (أو ما يُعرف بالـ Pinkwashing) التي تستهدف إسباغ الشرعية على منظومة الاستعمار الصهيوني ووسمها بشعارات التقدمية والتحرر الزائفة لغواية الشابات والشبان من مختلف الهويات الجنسية، لا تقتصر على تقنيات التسويق الكلاسيكية، إنما تضم فعاليات شعبوية شاملة أخرى، كمسيرة «الفخر» السنوية التي باتت ركيزة من ركائز القطاع السياحي الصهيوني، توازياً مع دعم وتمويل السينما المثلية والترويج لها في مهرجانات عالمية، كما تنظيم محاضرات عن «ريادة» إسرائيل في حماية حقوق المثليين، خصوصاً أنها تمتلك ـ بحسب زعمها ـ الجيش الوحيد الذي يسمح للمثليين بالانضواء إلى صفوفه (سُمح بذلك سنة 1995). خطوات منهجية تستدعي أكلافاً مهولة (إحداها طال الـ90 مليون دولار)، إلا أنها كافية لزجّ بؤرة الاستعمار إلى خارطة السياحة المثلية العالمية، إلى جانب جملة من المدن المتجذرة في نطاق الاستقطاب السياحي كميامي وسان فرانسيسكو وإيبيزا. (مثلاً، أفردت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عام 2013 الصفحة الأولى من ملحقها الثقافي، لمقالة تتغنى بـ«النمط المعيشي الرائع وغير المتوقع» في تل أبيب (1).
من جهة أخرى، وفي سياق تنكيلها المطرد بالوجود الفلسطيني، تعمد الدعاية الصهيونية إلى تجريد الفلسطيني من كينونته الإنسانية وإعادة تشكيله على هيئة «الآخر» الرجعي والمبتلي بداء رهاب المثلية، بما لا يتوافق مع المقياس المعولم لـ«العربي النظيف». وإذ تنطوي هذه الآلية على أنواع مختلفة من الممارسات الإقصائية التي تسهم في إحالة المعضلة إلى ثنائية المستعمِر المتنور في وجه المستعمَر المتخلف، إلا أنها تتعمد تهميش النشاط الكويري الفلسطيني الذي يشهد تطوراً لافتاً (مؤسسة «القوس» مثالاً)، متبنية بذلك السردية العنصرية «البيضاء» من دون استدراك خصوصية هذا «المستعمَر» التاريخية والثقافية. هذه الازدواجية المُفتعلة ليست سوى نتاج طبيعي لظاهرة الـ Homonationalism أو «القومية المثلية» التي اقتحمت الأوساط الحقوقية الغربية في الفترة الأخيرة، بما تحتمله من شرعنة للإكزينوفوبيا والإسلاموفوبيا تحت غلالة حماية حقوق المثليين، تزامناً مع حصر اللاجئ و«الغريب» في خانات الهوموفوبيا والرجعية والعقم الفكري. في هذا الصدد، تستغرق الباحثة في مجال دراسات النوع الاجتماعي جاسبير بور في تشريح مفهومها لهذه الأطروحة وتبيان التمايزات ما بين اصطلاحيْ «الغسيل الوردي» و«القومية المثلية». إذ أن «الأولى هي مظهر من مظاهر الثانية، فظاهرة القومية المثلية لا تنتجها الدولة فحسب، بل هي عبارة عن تلاقح تاريخي ما بين ممارسات الدولة وثقافة تسليع حقوق المثليين مع ظاهرة الإسلاموفوبيا المتنامية اليوم» (2). بحسب بور كذلك، تسهم الهيكلية النيوليبرالية في تسليع قضايا الفئات المهمشة، و«تطبيع السياحة المثلية القائمة وفق المعايير الحقوقية الأوروبية.
تعمد الدعاية الصهيونية إلى تصوير الفلسطيني على هيئة المبتلي بداء رهاب المثلية

هذا إذاً هو ما تفعله إسرائيل بمساعدة من أميركا، في خلال ترويجها للأجساد المثلية على حساب قضية استيطانها لفلسطين».
بالتزامن مع دأبها المطرد لكيّ الوعي الفلسطيني واستلاب محركاته الإيديولوجية، تشتغل المنهجية الصهيونية على التلاعب بصورة المثلي/ة الفلسطيني/ة وفرزها ضمن سياقين: المثلي/ة الذي انزلق إلى حبائل الإغراءات الإسرائيلية وانضوى إلى معسكرها العقائدي، إما بفعل ابتزازها له وتوجسه من فقدان مكانته داخل المنظومة الأخلاقية لمجتمعه (وهو ما كان شائعاً في الماضي)، أو تماهياً مع مزاعمها المزورة. وهو بذلك يجسد فانتازيا «الشرقي المثالي» متماثلاً مع الرؤية الاستشراقية لجنسانية الرجل والمرأة الشرقيين في الذاكرة الأوروبية. أمر يتصدى له الكاتب الفرنسي جان ستيرن بتهكم في مؤلفه «سراب مثلي في تل أبيب» (2017) ويعدّه بمثابة «أيقنة شهوانية للمثلي الشرقي، قبل إبادته من خلال جيش يحب المثليين!» (3). في حالة موازية، يستحيل المثلي/ة العربي/ة الذي يرفض الارتهان لصالح القوة الاستيطانية عنصراً لاغياً في عملية الاضطهاد اليومية، فتتوارى هويته الجندرية وميله الجنسي خلف طبقات هوياتية أخرى تحتل بدورها الأسبقية: العرق، الدين والطبقة الاجتماعية.
المفارقة أن محاولات الاحتلال الدؤوبة لاحتكار سمة النهضوية في مضامير الحرية الجنسية واجتزائها، لا تلبث إلا أن ترتطم بواقع نسيجه المجتمعي وقيمه الشاجبة للمثلية، خصوصاً اليميني منه، إذ أن نسبة لا تستهان بها من المستوطنين توصم الأفعال المثلية بـ «الشذوذ والانحراف الأخلاقي» (46%)، ما يؤكده حلولها في المرتبة الأخيرة في الاستطلاع الأوروبي حول معدلات «تقبل المثليين» بين عدد من الدول بما فيها الأوروبية (4)، علاوة على التعقيدات الأخرى التي تلزمها العقيدة اليهودية في ما يخص تبني الأطفال من أم بديلة غير يهودية. في إحدى إسهاماتها الصادرة في صحيفة «نيويورك تايمز» (2011)، تعري الكاتبة الأميركية سارة شولمان هذا البارادوكس الفادح، مشيرة إلى أن «ما تغفله إسرائيل هو أن قانون «تجريم المثلية» الذي أوجبه الوجود الكولونيالي البريطاني في الضفة الغربية، أُسقِط من القانون الأردني الذي ورثته السلطة الفلسطينية عند قيامها، عقب تعديل قانون الأحوال الشخصيّة عام 1957» (5).
وفي ظل ما ترسخه منظومة الأبارتهايد من تدمير عمدي للبنيان الاجتماعي والثقافي للفئة المستعمَرة بأساليبها القمعية والشمولية كافة، فإن مجموع الإسقاطات التي تسوقها أجهزة دعايتها تسهم كذلك في تعميق الشرخ بين المثليين/ ات الفلسطينيين/ات وحاضنهم المجتمعي، عبر إلحاقهم بسياقات الخيانة والعمالة والتطبّع بقيم الثقافة الغربية، ما يحول بدوره دون تحقيق أيّ تبدل نوعي في وجهة النظر الأخلاقوية السائدة لموضوعات الحرية الجنسية والفردية، ويجعل من «إسرائيل» تالياً «الترياق» الوحيد لداء الهوموفوبيا المستشري في العالم العربي. من هنا، يغدو الحديث عن استراتيجيات جذرية بنيوية لتسييس الخطاب الحقوقي المثليّ العربيّ وحرفه عن التجارب الإصلاحية الهلامية أمراً واجباً، في سبيل إعادته إلى مربعه ومحركه الأصلي: العنف الراديكاليّ المنظم.

1- Klar Eléonor‚ “Tel Aviv‚ ville à vivre”‚(Next‚9/9/2013).
2- Puar Jasbir‚ Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times (Durham‚ N.C.: Duke University Press‚ 2007).
3- Stern Jean‚ Mirage gay à Tel Aviv. (Paris: Libertalia‚2017).
4- Lior Iian‚ “Israel Actually Ranks Low in Tolerance of LGBT People Survey Says”‚ Haaretz‚23/8/ 2015.
5- Shulman Sarah‚ “Israel and Pinkwashing”‚ NYT‚ 2/11/2011.