1. اللّحم النّيّءكان حسن أبو زهرة نائمًا نومًا عميقًا. فقد كان النهار حارًا. والتعب وصل الى حدّه وزاد. فالعمارة كبيرة. والمتعهّد قال: يجب أن ننهي صبّ السّطح. لذلك ما أن عاد حسن أبو زهرة الى بيته مساء وأكل لقمتين حتى تمدّد ونام.
في وسط الليل، سمعت زوجته دقّة وقحة على الباب.. قالت في نفسها: كفانا اللّه الشّرّ! ودفنت رأسها بجوار حسن، تحت اللّحاف، وضمّته!
وبعد ثوان سمعت الدقّة، ثانية. اقتربت سميحة من حسن أكثر ولعب الفار في عبّها. حاولت أن تطرد الخاطر السّيّء وذكريات ذلك العام النّحس عندما أخذوه من فراشها.. لكنّ الطَّرق ازداد عنفًا على الباب فهجمت كلّ الذكريات النحسة عليها.
قال حسن أبو زهرة: أيوه!
- افتح!
تساءل حسن أبو زهرة: هل ستنشب الحرب؟ وسار نحو الباب.
دخل رجال الشّرطة.
ودّع سميحة والأولاد.
قال في نفسه: لا بدّ من أنّ الحرب قريبة الوقوع. ثم طرد خاطر الحرب من رأسه. وقال: قد يكون الأمر هامًا.. واستدرك.. وتافهًا.



في الصباح ناداه الحارس.. فخرج حسن أبو زهرة من الزنزانة 19 وجلس أمام المحقّق.
- لمن شرم الشّيخ يا حسن؟
- لأصحابه.
- ومن أصحابه؟
- كلّ العالم يعرف أصحابه.
- ولمن القدس يا حسن؟
- أهذا سؤال يحتاج الى جواب؟
- بالنسبة لي: لا يحتاج.
- وأنا أيضًا!
- هل تحبّ الوحدة يا حسن؟
- جداً.
- اذن لماذا تعارض في توحيد القدس!
- وهل سألتم أصحابها.
- نحن أصحابها.
ابتسم حسن أبو زهرة. فضرب المحقّق الطّاولة بقلمه وصرخ: ألا تعترف!!
- وما التّهمة؟
- أنت عدوّ.. عدوّ.
- لا تخدع نفسك.
- هل أنت بحاجة الى ستّة أيّام أخرى كي تصدّق؟
- وهل أنت مدير شركة تأمين أم محقّق؟
- أرى أنّك ثرثار، أيّ الصّحف تقرأ وأيّ الإذاعات تسمع؟؟
- وهل يهمّك؟
- طبعًا.
- ولماذا نتحدّث صباح مساء عن ديمقراطيّة ال...
- يجب أن تفهم يا حسن.
- ماذا؟
- أن لك زوجة وأولادًا!..
ابتسم حسن وقال: واحبّهم.
- وانّهم بحاجة الى طعام!
- وأعمل في البناء لأشتري الخبز لهم.
- اذن.. افهم!
صمت حسن أبو زهرة برهة.. ثم عادت الابتسامة الى وجهه وقال: يا حضرة الشّاويش افهم!
- ماذا؟؟
- ان الذي يأكل لحمًا نيئًا سيبقى معرّضًا لوجع البطن!!



2. الكرشة
كان حسن إغباريّة لا يعرف من كلمات اللّغة العبريّة عدد أصابع يديه. ولكنّه يذهب صباح الأوّل من كل أسبوع الى تل أبيب ليعمل في مصنع الطّوب ولا يعود الى أم الفحم الا مساء الجمعة.
وقبل أسبوع اقترحت عليه أمّ الأولاد أن يشتروا كرشًا. فالكرش زهيد الثّمن.. كثير البركة. يشبع العائلة ويزفرها، فاقتنع حسن برأيها وأوصى سعيدًا، اللّحام، أن يحفظ له الكرش في يوم السبت القادم.
وهذا ما حدث.
نشلت خديجة الكرش من الدّست ووضعته في اللّجن. وقبل أن يبرد لم يبق شيء. لحسوا أصابعهم.. والقطّة لم تجد ما تلحسه في اللجن.
وفي صباح الأحد حمل حسن سلّة وركب في السّيارة المسافرة الى تل أبيب. وفي المحطّة المركزيّة ركب سيّارة أجرة صغيرة كي يصل الى مكان قريب من مصنع الطّوب.
في الطريق.
كان ركّاب التاكسي يتحدّثون.. وكان حسن يفكّر بعدد الحجارة التي سيصنعها اليوم.. ففي يوم الأحد يعمل أكبر كميّة من الحجارة. فالأحد يأتي بعد يوم الرّاحة. وكيف اذا أكل زفرًا يوم السّبت؟!
وفجأة وقفت السّيارة.. وتعجّب لأنّها تقف أمام مركز الشّرطة.. نزل كلّ الرّكاب بسرعة منها.. وبقي، وحده، لا يدري ما الأمر.
اقترب شرطيّ من حسن وسأله: ما هذا..
كان حسن يعرف «ما هذا» بالعبريّة.. ويعرف أن يسأل أيضًا.. «ماذا تريد؟».
أشار الشرطيّ الى السلّة التي سقط عنها الغطاء.
ابتسم حسن! وقال في نفسه، ما زالت خديجة تفضّلني على الأولاد. ويظهر أنّها قد خبّأت «أم المصارين» ووضعتها في الزوّادة!!

3. الحرب والسلم
الصفحة الأولى من جريدة صباح اليوم كانت تحمل التاريخ التالي.. اليوم؟ من شهر؟ بعد حزيران.. أما الأخبار فكانت كما يلي:
- قال وزير الدفاع: نحن أقوياء.
- صرح ناطق بلسان الحكم العسكري أن أنواعًا جديدة من الزراعة قد استعملت في «المناطق المدارة».. وأن خمسة رجال أبعدوا الى ما وراء النهر.. وان ثمانية قد نفوا الى قلب سيناء.. بتهمة إهمال دروسهم والتدرب على استعمال الأسلحة..
- قذائف كاتيوشا من الأراضي اللبنانية على كيبوتس....؟
- قال وزير المواصلات لا يمكن أن ننسحب من القدس وقطاع غزة وشرم الشيخ وهضبة الجولان.. و..
- أذاع ناطق عسكري أن لغمًا انفجر في سيارة عسكرية فدمرها ولم يصب أحد من ركابها بأذى.
- قالت رئيسة الوزراء في اجتماع طلابي: أن حرب الأيام الستة هي آخر الحروب في المنطقة!
- قال وزير الشرطة: انه قلق بسبب وضع اليهود في الاتحاد السوفييتي!!

4. معلّم الجغرافيا
كان حسن الحامد يعرف النّتيجة.. ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الانسان فعندما وصلته الورقة لم يتفاجأ.
فقبل أسبوع، وكعادته، في صباح كلّ يوم، دخل حسن الحامد صفّه في المدرسة «المأمونيّة» في القدس «الموحّدة» وبدأ يلقي درس الجغرافيا أمام الطلاب. وحسن الحامد معلّم جغرافية أصيل. فمنذ عشرين سنة وهو يعلّم الموضوع. ولم يشكّ أحد في مقدرته ومعلوماته – وهو يحفظ موضوعه عن ظهر قلب كما نحفظ الفاتحة.. وخاصّة إذا كان عن جغرافية بلادنا.. فعندها يتحوّل الدرس الى عشق ومحبّة.
ولكن ماذا يعمل حسن الحامد مع كتاب الجغرافية الجديد؟
بدأ حسن يشرح الدّرس والمرارة لا تفارق لسانه. فجأة رفع تلميذ إصبعه وسأله؟
- قرأت في الكتاب يا أستاذ عن مدينة اسمها «صفات» فأين تقع يا أستاذ؟
قال حسن الحامد بمرارة: في الجليل.
فعاد التلميذ يستفسر: وهل هي بعيدة عن «صفد»؟
- هي.. هي.
- ولكنّي لا أفهم لماذا غيّر هذا الكتاب اسمها؟
وتشجّع ولد آخر وسأل: هل الخليل هي مدينة سيّدنا إبراهيم؟
قال حسن الحامد: نعم.
قال الولد: ولكنّ الكتاب يقول: حبرون!
ولم يستأذن التلميذ الثالث عندما سأل: واللّه.. هذا عجيب. في الصّفوف الدنيا تعلّمنا أن مرج ابن عامر يقع بين جبال الجليل وجبال السّامرة واليوم: يقع عيمق يزراعيل بين جبال هشمرون وجبال الجليل.
وقال تلميذ رابع: وأنا لا أدري كيف أن جبال جلعاد ومؤاب والسعير تسمّى جبال إسرائيل الشرقيّة.
وبصق حسن الحامد الماء من فمه..

5. عندما تفقد الكلمات معانيها
لو انّ نقّادنا شاهدوا اليوم صديقي حسن أبو طبيخ لقالوا عنه: لقطة من مسرح اللامعقول.. لكن عندما شاهدته أمّه، دقّت على صدرها وخافت على عقل ولدها. فعندما دخلت كعادتي عليه عصر هذا اليوم لنلعب الشّطرنج وقلت له: السلام عليكم يا حسن!
أجاب: يلعن أبوك.
ولمّا غطّى الغضب وجهي وحاولت أن أعود، قال: انت لا تريد أن نتفاهم.. انت عبيط.
قلت: ماذا؟
قال: وو.. وو.. وو.. وو.
- حسن ماذا أصابك؟
- يو.. يو.. يو.. يو.
- هل أنت مريض؟
- ها ها ها ها.
إقتربت منه وقد حيّرني أمره..
- حسن.. أنا سعيد.. صديقك
أشار برأسه: لا.
وأحبّك.
- ها ها ها ها.
هممت أن أخرج فصرخ: أنت لا تريد أن نتفاهم؟
فرحت لأنه عاد يتكلّم فعدت..
- خبّرني. ماذا أصابك؟
- لا شيء..
- ولكن..
- أنا طبيعيّ..
- لكن..
- هذه حقيقة.
- أيّة حقيقة؟
- هل تحبّني؟
- طبعًا.
- اذن.. أنت تكرهني!
- أعوذ بالله.. ماذا أصابك؟
- هوّن عليك.. لماذا قلت عندما دخلت: السّلام عليكم يا حسن..؟!
- ماذا أقول..
- يا غبيّ إنّ كلمة السّلام في عصرنا وفي بلادنا معناها «الحرب»..
- لا تتفلسف!!
- ألا تسمع – ألا تقرأ الصّحف.. حرب الأيام السّتة كانت من اجل السلام.. بقاء القوّات الإسرائيليّة في شرم الشيخ.. وغزّة.. وسيناء.. والضّفة الغربيّة والجولان من أجل السّلام – القدس «موحّدة» من أجل السّلام.. فإن قلت لي بعد اليوم «السّلام عليكم» فمعناها...

* (من المجموعة القصصية " عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر" 1978)

* نبذة عن القاص محمد علي طه
ولد في قرية ميعار في الجليل عام 1941، وهُجّر منها مع عائلته وباقي اهلها في أحداث النّكبة 1948. أنهى دراستة الثّانويّة في كفرياسيف، وحصل على اللّقب الأوّل في اللّغة العربيّة والتاريخ من جامعة حيفا عام 1974. درّس اللغة والأدب العربيّ في الكلّيّة الارثوذكسيّة العربية بحيفا طيلة خمسة وعشرين عاماً. من مؤسّسي اتحاد الكتاب العرب في اسرائيل وانتخب رئيسًا له عام 1991 خلفا للشّاعر سميح القاسم. رئيس لجنة الوفاق الوطني التي اقامت القائمة المشتركة في العام 2015. انتخب عام 1998 رئيسًا للجنة إحياء ذكرى النّكبة والصّمود. صدر له إحدى عشر مجموعة قصصيّة استهلها بـ «لكي تشرق الشّمس» عام 1964، وتابعها في «سلامًا وتحيّة» 1969، «جسر على النّهر الحزين» 1974، «عائد الميعاري يبيع المناقيش في تلّ الزّعتر» 1978، « وردة لعيني حفيظة» 1983، « ويكون في الزّمن الآتي» 1989، «النّخلة المائلة» 1995، «بير الصّفا» 2004، « العسل البرّيّ» 2007/ «في مديح الرّبيع»2013. « مُدرّس الواقعيّة السّحريّة»، 2015،بالإضافة إلى رواية « سيرة بني بلّوط» 2004. وسيرة ذاتية بعنوان «نوم الغزلان» 2017. له 5 مسرحيات منها: حوض النعنع، إضراب مفتوح، شوفير أخو أخته. كما صدرت مختارات من مقالاته السّاخرة في 5 كتب.
نال عددا من الجوائز، أهمها:
وسام القدس، وتسلمه من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، 1997
وسام الاستحقاق والتميز الفلسطيني، تسلمه من الرئيس عباس 2013
جائزة فلسطين للآداب، 2015
جائزة مجمع اللغة العربية، الناصرة،2017
قدّم للأطفال 13 قصّة رأت النُّور في أكثر من دار نشر في الوطن والخارج. مقيم في قرية كابول- الجليل.