وردّاً على ما جاء في مقالة الزميل بيار أبي صعب بعنوان «بول شاوول» (الأخبار، الجمعة ١٤ آذار/ مارس ٢٠٠٨)، جاءنا من الشاعر عباس بيضون التعقيب الآتي:عباس بيضون
عزيزي بيار
تُمسك عليَّ ما تعتبره تناقضاً، وأنا لا أنكر أنني وضعت نفسي في موقف لم تكن الوحيد الذي اعتبره تناقضاً. موقف لا يأمن من اللبس والحيرة. لستَ من الذين يخافون من التناقض على كل حال ولا أظن أن أحداً منّا في استقامة العصا، وأخشى أننا نحمل نفوساً متناقضة... إلا أن الأمر ليس هنا، فأن نصف موقفاً بأنه متناقض قد يبدو اتهاماً له بأنه لا حقيقة فيه، وأنه قد يكون صنو الخداع، وقد يحملنا على أن نلقيه وراء ظهرنا ولا ننظر فيه. قد يخطر أن صاحبه لا يعنيه، وإلا لما وقع في هذا التناقض، وقد يغنينا هذا عن النظر إلى الالتباس الذي قد يكون في المسألة لا في الشخص وحده فحسب.
إنه التباس أكثر منه تناقضاً. الأرجح أننا لا نقف على شيء في حياتنا من دون أن يكون مُلبِساً. يتراءى لك أنني أتناقض حين أنتقد ما سُمّي ميثاق الشرف الذي يُلزم المثقفين بتجنّب القضاء وتوقيعي على بيان ينتقد دعوى العماد عون على بول شاوول. ذلك مُلبس بل وفي ظاهره تناقض واضح. وأنا أشكر لك أنك في إشارتك إلى ذلك تتيح لي أن أقف قليلاً على هذا الالتباس، فأقول إنني في الحالين لم أنتقد دعوى وأقبل دعوى. انتقدتُ إخراج القضاء من الحكم في وضع عمَّ فيه الافتراء والاتهام. واعترضتُ على ادّعاء العماد على كاتب مقال فيه ما يشبه ما يقوله العماد في خصومه. من هنا تبدأ
المسألة.
العماد ومثله بعض السياسيين كانوا البادئين بلغة قوامها الاستهزاء والاتهام والتخوين والثلم الأخلاقي، فالعماد لا يتكلم عن خصومه إلا كلصوص ومغتصبين وعملاء وحثالة، وهو القائل فيهم إنهم «بسينات»، وهو الذي يعتبرهم ما دون ركبته. ناهيك عن «ما تحت الزنار». العماد ومثله بعض السياسيين أخرجوا اللغة السياسية إلى هذا الدِّرك من ضياع المعنى والوصم والتشنيع والإدانة. وإذا بلغ الأمر هذا المستوى ضاع الجدل والحوار، وضاعت المقاربة السياسية وحل محل ذلك الاغتيال والتهريج والرقص على القبور والسيرك الكلامي. أي وصلنا إلى إفساد كامل للغة وتخطٍّ لكل بيان ونفاذ إلى الهستيريا والهذيان والكلام على عواهنه والتهريج الصرف.
لا أدافع عن إنشاء شاوول السياسي، كل ما أقوله إن هذا الإنشاء لم يكن لولا أن كلام العماد وسواه أعطاه مشروعية ورسم له مثالاً ومهّد له السبيل. فبأي حق يجوز للعماد أن يدّعي على كلام من قماشة نبرته السياسية، وباراه في الاستهزاء والهجاء والتهويل اللفظي. باراه، وربما فاقه، في التعنيف والشرشحة. يجوز أن يقال للعماد هذا بعض ما عندكم وهذا من حصادكم فلا يحق لك أن تدّعي على كلام يحاكي كلامك ويترسّمه.
لهذا وقّعتُ، لا اعتراضاً على القضاء بالطبع وهو، رغم كل شيء، بقيّة صالحة من الدولة المستحيلة، لكن اعتراضاً على أن يبيح السياسي لنفسه ما لا يبيحه للآخرين، بل اعتراضاً على ما يعنيه ذلك من تجاهل لمسؤوليته في إفساد اللغة السياسية وإيصالها إلى هذا المستوى.
وقّعتُ لأشدّد على مسؤولية العماد ومَن مثله من السياسيين في إيصال الكلام السياسي إلى مطرح لا يحتاج إلى فكرة وإلى سياسة وإلى حوار بقدر ما يحتاج إلى تنابذ ومحق وبهدلة وعنف واحتقار وعداوة وكراهية. إنها حرب بالألفاظ، حرب لا محل فيها لغير الإعدام والأذى والقتل. الصغار يتبعون فيها الكبار، والصحافيون يتبعون فيها السياسيين، والمجتمع بكامله ينخرط في دوّامتها. فلنفكّر منذ الآن بمسؤوليات الجميع.