في السنوات الأخيرة كانت أعماله مسكونة بهاجس الموت. بعد عمر من التيه على طريق وطن مستحيل، سكت قلب الشاعر الفلسطيني في الولايات المتحدة بعد جراحة لم يكتب لها النجاح. بغياب محمود درويش يخسر الشعر العربي أحد أعذب أصواته، والقضيّة الفلسطينيّة رمزاً كبيراً لم يفلت من تناقضات المرحلة

بيار أبي صعب
في هيوستن انتهت رحلة المنفى الطويلة. رصدتها شاشات التلفزيون، كما يليق برئيس دولة أو نجم كبير. على «العربيّة» أطلّ الدكتور عبد العزيز الشيباني، طبيب محمود درويش (1941 ــــ 2008)، ليحسم الأمر. ثم أطل أبو مازن لينعي «رائد المشروع الثقافي الحديث» وكاتب «إعلان استقلال فلسطين». وكانت «الجزيرة» سبقت الجميع إلى نشر النبأ الحزين، وملأت الشاشة بصورته الأليفة وصوته الأجش، يقرأ لنا الشعر كأن شيئاً لم يكن. عند الساعة السادسة والدقيقة الثالثة والثلاثين من مساء السبت، بتوقيت غرينتش، فصلت أجهزة الإنعاش التي كانت تدعم المؤشرات الحيويّة، وأفلت الشاعر من جسده. افترق عن نفسه عند ذلك البرزخ بين الليل والفجر: «ولنذهبنّ معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة (...)، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد...». في غرفة مستشفى في ولاية تكساس، تحققت النبوءة وفقاً للسيناريو الذي وضعه بنفسه «في حضرة الغياب» (٢٠٠٦).
تلك النهاية التي كان يستشعرها محمود، وينتظرها برهبة تتنكّر في ثياب الحياد واللامبالاة، تضع حدّاً لرحلة بين المنافي على طريق وطن مستحيل. «كلما طال منفى الشاعر توطدت إقامته في اللغة» كان يقول... عبوره في المدن، كان تنقّلاً بين محطات على درب الجلجلة. وها هو يترك للأجيال المقبلة، تراثاً شعرياً غنياً بالتحولات، يختصر عصراً كاملاً ــــ عصرنا ـــــ بجراحه ومشاغله وأسئلته الجماليّة، ويختصر فلسطين التي صار الناطق المطلق باسمها، ضميرها ووجدانها، هو الذي طالما دافع عن فرديّته كشاعر، وعرف كيف يهتدي إلى المعادلة السحريّة التي تجمع في القصيدة نفسها بين المفرد والجمع، بين «أنا» الشاعر و«نحن» الجماعة.
محمود درويش هو المنفيّ بامتياز: «لا ينتمي إلى أي مكان خارج ذاكرته الأولى... يضخّم المنفيُّ جماليات بلاده ويُضفي عليها صفات الفردوس المفقود... ويتساءل: هل أنا ابنُ التاريخ، أم ضحيّته فقط؟». كان يعدّ العدّة لرحيله منذ أشهر. ودّع حيفا في تموز/ يوليو الماضي، في «الأوديتوريوم»، ودّع باريس في الخريف بأمسية نادرة احتضنها «بيت الشعر»، ودّع رام الله قبل أسبوعين في الاحتفال الشهير الذي أقامته بلديّة المدينة، ونقله التلفزيون إلى ملايين المشاهدين في العالم. نبّه الجمهور يومذاك إلى كونه موعداً وداعياً، واعتذر عن وجوده المستغرب في حفلة تأبينه.
هل نواصل؟ القاهرة منحته جائزة «مؤتمر الشعر»... وكان قد عاد إلى قرطاج بحثاً عن بعض سنواته الضائعة... وبيروت التي تنشر أعماله كان يواعدها سرّاً، كما عشيقة سريّة. أطلق اسمه على ساحة في رام الله. وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الفلسطينية، وضعت صورته على طابع بريدي. ماذا بقي إذاً؟ قصائده الأخيرة («على محطّة قطار سقط عن الخريطة»، «لعبة نرد»...) لا تترك مجالاً للشكّ. لقد رتّب الرجل الأنيق الذي نادراً ما رأيناه من دون بذلة، والشاعر المتوحّد وسط هذا الصخب، موعداً مع الطفل الذي بقي هناك بعيداً في البروة. أعدّ كلّ شيء، وكتب وصيّته الشعريّة. رثى محمد الماغوط وبعده ممدوح عدوان، ثم رثى نفسه على طريقة مالك بن الريب «في حضرة الغياب» ومضى. إنّها نهاية مرحلة أساسيّة واستثنائيّة في تاريخنا الشعري والثقافي.
إجتاز درويش على طريق الشعر دروباً متعرّجة تختزل مسار الذائقة الشعريّة العربيّة منذ ستينيات القرن الماضي وحتّى يومنا الراهن. بين «بطاقة هويّة» و«لعبة نرد»، بين «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» و«قافية من أجلِ المعلقات» مرّ عصر كامل، تخفّف خلاله الشعر من أعباء كثيرة. قام الشاعر، حسب تعبيره، بـ «تخفيف ضغط اللحظة التاريخية على جمالية الشعر، من دون التخلّي عن الشرط التاريخي». في الستينيات عاش وناضل في حيفا، كان شيوعيّاً وشاعراً وصحافيّاً. فقدم القصائد الأولى التي ما يزال يرددها كثيرون. في السبعينيات عبر من موسكو إلى القاهرة فبيروت، استقرّ فيها لتبدأ في شعره مرحلة جديدة. بعد «العصافير تموت في الجليل» (١٩٦٩) و«حبيبتي تنهض من نومها» (١٩٧٠)، كتب «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» (١٩٧٥). ثم جاء الخروج الجديد من بيروت إلى تونس في الثمانينيات، وكان «حصار لمدائح البحر» (١٩٨٤). السنوات الباريسيّة برأي النقاد هي سنوات التحوّل الحاسمة، والعودة إلى رام الله ترافقت مع سنوات النضج.
ويمكن اعتبار «ورد أقل» (1986) بداية الانعطافة في تجربة محمود درويش. أخذت قصيدته تتخفّف من غنائيتها العالية ودراميتها المتوترة، تاركةً مسافة نقديّة بينها وبين ثقافة النضال والمقاومة، لتعدّل نهائيّاً صورة الشاعر كناطق رسمي باسم القضية. وتواصلت الانعطافة منتصف تسعينيّات القرن الماضي، مع صدور «لماذا تركت الحصان وحيداً؟». واقترنت تلك المرحلة الجديدة بناشر لبناني هو رياض نجيب الريّس الذي أطلق تباعاً كل أعماله اللاحقة: «سرير الغريبة» (1995)، «جدارية» (2000)، «حالة حصار» (2002)، «لا تعتذر عمّا فعلت» (2004)، «كزهر اللوز أو أبعد» (2005). وقد أعيد جمع تلك العناوين في مجلّد خاص طوّب «الأعمال الجديدة» (2004)، كنوع من التكريس لتلك المرحلة في مسار الشاعر الفلسطيني. ولم يلبث الريّس أن أدخل إلى كاتالوغه مجموعات درويش السابقة، إذ نشرها العام الماضي في ثلاثة أجزاء تحت عنوان «الأعمال الأولى».
بينه وبين النثر كانت هناك علاقة تجاذب دائمة. كان يكتب عيناً على المتنبّي وأخرى على رينيه شار، فإذا بنصّه الشعري تأليفاً بين أزمنة ومدارس وأجيال وحقب شتّى. دعا الشاعر لإعادة الاعتبار إلى النصّ الشعري، وتحريره من كلّ العوامل الدخيلة المسقطة عليه، و«تنظيف القصيدة مما ليس شعراً». القصيدة باتت الوجع السري الحميم أوّلاً، بالنسبة إلى أبرز روّاد الغنائيّة في القصيدة الحديثة، ولها بعد ذلك أن تعكس ــــــ تبعاً لميكانيسمات سحريّة، ومعادلات معقّدة ــــــ وعي الجماعة وجراحها وهمومها.
المنافي والمذابح والهزائم والهجرات بقيت تتلاحق على إيقاع النصّ الشعري. واللغة المتجذّرة في الأرض البعيدة تبني في كلّ مدينة جديدة امتدّ إليها المنفى، شكلاً للوطن. كان يطلّ علينا محمود درويش، مشرقاً وأليفاً، ليذكّرنا بأن طريق فلسطين تمرّ في القصيدة، وأن القصيدة رمز لكلّ الأحلام المجهضة. فالشاعر تماهى مع القضيّة، ولم نعد نستطيع أن نتبيّن أيّهما يعطي زخماً للآخر. استحال صاحب «جواز السفر» ضميراً لشعبه، لأنّه عرف كيف يبقى شاعراً قبل كلّ شيء، بكلّ ما تختزنه الكلمة من عري وتقشّف، في قلب العاصفة، عند ذروة المأساة.
هكذا شهد شعره تحولات مفاجئة، مدهشة، فاكتسب ديناميّة جديدة، وشفّ وتصفّى. ولعلّ علاقة درويش بحوادث الزمن الفلسطيني وانهياراته، وراء تلك الإشراقة، وذلك التصفّي. فهو من أبرز وأوّل الأصوات العربيّة التي ارتفعت تجاهر بموقع الخاسر. طالب بالحقّ في إعلان اليأس، بصفته «فسحة لتأمّل المصير»، ودعا إلى وعي الهزيمة والتحرّر من «ميثولوجيا المنتصر».
ولا شكّ في أن المأزق السياسي والوطني الذي تعيشه القضيّة الفلسطينيّة منذ سنوات، وضيق الأفق بين خيار «متشنّج» يحمل في طيّاته بذور مقاومة، وخيار «منفتح» ارتمى في أحضان الجلاد... من العناصر التي زادت من مأزق الشاعر ويأسه. اليوم، ونحن نودّع محمود درويش، نستعيد كلماته ترياقاً وعزاءً: «اليأس هو الأرض الشعريّة والنفسيّة واللغوية... التي تردّنا إلى وحدة شبه مطلقة على أرض الغربة، تردّنا إلى بداية الشعر...».


أوردت بعض الصحف أن الشاعر صحا من العمليّة في هيوستن، وباشر كتابة قصيدة قبل أن يسوء وضعه مجدداً: “هزمتك يا موت/ الفنون الجميلة جميعها هزمتك/ يا موت الأغاني في بلاد الرافدين/ مسلة المصري/ مقبرة الفراعنة/ النقوش على حجارة معبد هزمتك/ وأنت انتصرت”.


سيرة

والآن أين مدينة الموتى؟ عاش محمود درويش (1941 ــــ 2008) بلا مدينة، موزّعاً على المنافي، ومات في هيوستن ولاية تكساس الأميركيّة مساء السبت الماضي. كان طفلاً عندما ذاق طعم الهجرة، منذ خرجت عائلته من قرية «البروة» شمالي عكا، عام 1948.
لجأت العائلة إلى جنوب لبنان، في رميش قرب جزين، وكان محمود الثاني بين أربعة إخوة وثلاث إخوات. بعد انقضاء عام، عاد متخفّياً مع العائلة ليكتشفوا أن قريتهم دمّرت (وأقيم على أنقاضها كيبوتس «أحيهود»)، فأقاموا في “دير الأسد في الجليل، ثم استقروا في قرية الجديدة». واعتبرهم الاحتلال ِ«غائبين حاضرين» لأنهم كانوا غائبين لدى أول إحصاء إسرائيلي للعرب. فعاشوا لاجئين في بلدهم. هذا الوضع أوحى له بقصيدة ِ«بطاقة هويّة» (سجل أنا عربي) عام 1967.
انطلق محمود الشاب إلى حيفا في الستينيات، لينهي دراسته الثانويّة، يعمل في الصحافة، وينخرط في السياسة، ويصبح شاعراً. كتبَ في صحيفة «الاتحاد» وترأس تحرير مجلة «الجديد» التابعتين للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح). لوحق واعتقل مراراً، وفي السجن كتب قصيدته الشهيرة «أحن إلى قهوة أمي» عام 1965، كما فُرضت عليه الإقامة الجبرية عقداً كاملاً، لكنه ظلّ يتنقّل بقصائده بين القرى، بعدما أصدر ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» (1960).
في عام 1972 التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية، واختار المنفى فمضى إلى موسكو ثم القاهرة، واستقرّ في بيروت. هنا أشرف على «مركز الأبحاث الفلسطينيّة»، وترأس تحرير مجلّة «شؤون فلسطينيّة»، وترأس رابطة الكتب والصحافيين الفلسطينيين إلى أن أطلق مجلّة «الكرمل» عام 1980 وانتقلت معه إلى قبرص فرام الله ثم احتجبت قبل سنوات في رام الله.
في عام 1981، كتب قصديته «أصدقائي لا تموتوا»، وكان قد شهد اغتيال صديقه ماجد أبو شرار، خلال مشاركتهما في مؤتمر عالمي. بعد اجتياح بيروت، أصدر درويش عمله النثري الأول «ذاكرة للنسيان». وتنقل بين تونس والقاهرة وقبرص وبلغاريا حتى استقرّ في باريس. عمل مستشاراً للرئيس ياسر عرفات، وانتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عام 1988، واستقال منها عام 1996 احتجاجاً على «أوسلو». عاد عام 1994 ليقيم في رام الله، موزعاً أوقاته بينها وبين عمّان.
أصدر أكثر من ثلاثين ديواناً، نذكر بينها: «عاشق من فلسطين» (1966) و«آخر الليل» (1967) و«حبيبتي تنهض من نومها» (1970) و «ورد أقل» (1987) و«لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995) و«حالة حصار» (2002) و«كزهر اللوز أو أبعد» (2005) وأخيراً «أثر الفراشة» (2008). أما آخر قصائده فكانت «سيناريو جاهز» التي نشرت في الصحف قبل أسابيع. حاز جوائز عالميّة عدّة منذ «اللوتس» و«لينين» و«درع الثورة الفلسطينيّة»... حتى الـ «برنس كلاوس»، مروراً بـ «جائزة العويس».
موقعه الرسمي: www.mahmouddarwish.com