وائل عبد الفتاحالصور وحدها تفضح الشعراء. محمود درويش لم يكن غاضباً قبل جولته الأخيرة مع الموت. بدا مرتبكاً. لم يقرّر، هل يكمل المفاوضات حتى النهاية أم يستسلم لألعاب الموت معه؟ في المرة الأولى، توقّف قلبه دقيقتين، رأى فيهما نفسه على غمامة بيضاء يستعيد طفولته. عاد من السفر قبل أن تكتمل الرحلة. هذه المرة، لم يخدع أحداً، ترك قبل الرحيل «لاعب النرد» قصيدة وداع للملاعب. حُزنها شفاف، ترى فيها ترتيبات الرحلة الأخيرة. يفصح عن محاولاته سرقةً فردية خطرة في جماعة مهزومة. ويستعيد جغرافيا حروبه الخاسرة والمنتصرة معاً. الخسارة لا تعيب الشاعر. تمنحه صوتاً أصفى وقلباً موجوعاً لا يتحمل المزيد من اللعنات. اللعنة والحب امتزجا دائماً في العلاقة بدرويش. صوته وصل قبل صورته على شريط كاسيت تناقلت «مديح الظل العالي» بأداء يشبه المطربين الكبار. ما زلت أسمع صوت درويش رغم مرور ٢٠ سنة، مثل الحب الأول أو الاكتشاف الأول لمناطق سرية. كانت هذه روعة الشعر وصوته يقتحم الحصون الأولى لفردية خجولة تلهث وراء الالتحاق بجماعة تعرفت إلى نشيدها في قصائد درويش.
درويش كان مطرب العواطف السياسية، لكنّه طرب خاص. اختلط مع أصوات أخرى في الكورس الفلسطيني. وسرعان ما انفصل بصوت نقل العواطف إلى منطقة أعمق سرق فيها فرديته خطوة خطوة وسرّب إلى مغرميه فرديةً لم يكتشفوا سرّها إلا بعد سنوات... حين أفشى درويش أسرار السرقة سراً سراً.
هرب من إغراء الحبس في قوالب «مغني الثورة»، «شاعر القضية». قبور مصنوعة بفتنة مبهرة وصور على جدران أنيقة، لكنّه هرب منها كما هرب من عاشقاته وبيوته المستقرّة في إطارات اجتماعية جذابة. كان يستجيب في البداية، يتلذّذ بمتعة عمومية لكنّه يتسلّل كما فعل أوّل مرة مع عائلته ليعود إلى أرضه التي أصبح غريباً فيها. الألفة الاجتماعية مغرية، لكنّها تقوده إلى غربة تلو غربة. يهرب من صورة المناضل السجين في زنزانة إلى القاهرة، موطن الشهرة في الستينيات والسبعينيات، لكنّه يخون الصورتين مع صورة أخرى ويهرب خلف عشق آخر. جرّب درويش ألعاب الخيانة كلّها. خان فرديّته وأصبح شاعر القبيلة. ثم خان انتظارات الجنود حين نزل من على صهوة جواد النبوة وكتب عن الحب والفرد الغريب الهارب من قبيلته.
ألعابه في السياسة كانت خشنة لجمهور يصنع للشاعر صورةً ناعمة، يخفيها تحت الوسادة في الجبهة ويختطف مقولات مأثورة يزين بها محبته للقضية. درويش كان خشناً وهو يقبَل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وهو يتحرّك كأمراء النضال. خشونة درويش، خشونة التجربة والاقتراب من خط النار. كان المنصب يريد التزيّن بدرويش فأعطاه درويش زينته. لم يبرّر خيبات الزعماء. خاف عليهم من جنونه وانسحب محتجّاً على «أوسلو». لكنّ لعنة المنصب ظلّت تلاحق درويش ربما في محاولة لاسترداده إلى الجماعة أو أملاً في صفقة جديدة بين السياسة وجنون الشاعر.
الجنون انتصر حتى على رغبة درويش في المصالحة بين نار الشعر ونار السياسة. مصالحة تخاف من العزلة في برج بابل. هرب من الأبراج إلى ميادين واسعة، تجمّع فيها عشاق من مراحله المختلفة. ميادين تقبل الشعراء لأنهم شعراء أولاً يلعبون، ولعبهم يمنح للحياة لذتها الكبرى. انتسب طوال عمره إلى «فلسطينيي ٤٨» أي إلى الحياة بنصف حق ومرتبطاً بنكبة لم تمّحِ آلامها حتى الآن. تتقاطع مع سيرته الشخصية مأساة شعبه. لم يكن صوت أحد رغم أنّ الفلسطينيين اعتبروه صوتهم. عشرات الشعراء تنافسوا ليكونوا صوت القضية، لكنّ درويش ظلّ صوتها المتفرد لأنّه لم يستسلم لها. قادها إلى مساحة أرحب غير شكل الخطاب السياسي الفلسطيني. وكانت في كل قصيدة خيانة لمَن ينتظر منه أن يكون على هوى الآخرين. رأى درويش أنّهم يحبّونه ميتاً ليقولوا: كان منّا وكان لنا. لم يدخل العلب المحفوظة. وكما نال محبة وشهرة وعشاقاً، لم ينجُ من اللعنات والاتهامات. قال عاشق آخر نحبّه هو ناجي العلي «محمود خيبتنا الأخيرة». وقتها، كان درويش في كادر واحد مع أبو عمّار وكانت كلمة ناجي العلي موتاً أكيداً لدرويش. وكالمعتاد، لم تكن هذه النهاية. تسلّل صوته ليعلن أنّه ما زال حيّاً في مكان آخر على أرض أخرى. وعندما كتب عن الحب فقط في ديوانه «سرير الغريبة»، قالوا: باع القضية تماماً ودفنها ونسي المقاومة. لكنّ القصائد كانت درساً في مقاومة أخرى: إعلان بأنّ الفلسطيني إنسان، يحبّ، يخاف، يهرب إلى المتع كما يهرب العشاق. تحررت المقاومة من التخصّص في مشروع واحد لتحرير فلسطين. درويش رأى تحرير الفلسطينيين أولاً من مصير الضحية المستسلمة. لم يستسلم هو. ترك جسده يستسلم وركب غمامته البيضاء ليطلّ على جنة عدن التي طرد منها آدم وأصبح أول لاجئ في الدنيا.
قبلها تسلّل صوته إلى أصدقاء يحدّثهم عن مفاوضات الموت. أخبره الأطباء بأنه يعيش وفي صدره قنبلة قد تنفجر الآن وربما تؤجل انفجارها عشر سنوات. اختار مواجهتها رغم أن احتمال النجاح ١٠ في المئة. درويش انسحب قبل أن تظهر النتيجة. ترك سريره في المستشفى الأميركي وتابع جسده وهو يعمل بالأسلاك والأجهزة وسافر قبل إعلان موته بساعات أو دقائق كي لا يودّع أحداً أو يسمع صوت بكاء أو يرتبط عاطفياً بمن سيتسلّمون جسده. لم يتحمل الانتظار، تسلّل وحيداً كي لا يرى طقوس القبيلة وهي تستعيد جسده.


منذ سنوات، تعكف دار «أندلس» للاسرائيليّة التقدّمية ياعيل ليرر، على ترجمة كتب درويش إلى العبرية نقلها الشاعر الراحل محمد حمزة غنايم. وفي 1999، قرّر يوسي سريد، وزير المعارف يومها، إدراج قصائده في مناهج التدريس. لكنّ اليمين الإسرائيلي هاجم القرار. ومرةً صرّح أرييل شارون، أنّه يحسد الفلسطينيين على درويش، معترفاً بأنّه قرأ ترجمات شعره. ولعل هذه المفارقة تدلّ على أنّ الشاعر نجح في تشكيل لغة شعرية كونية، تتجاوز حدود القرّاء العرب، وصولاً إلى سفّاح صبرا وشاتيلا!