نزيل «أرخبيل الغولاغ» يلتحق بالرفيق ستالين

ألكسندر سولجينتسين
(1918 ـــ 2008) أشهر «المنشقين السوفيات» وصاحب «نوبل للآداب» (1970)، يمضي غداً إلى مثواه الأخير، في مقبرة دير دونسكوي الموسكوبيّة، بعد مسيرة صاخبة تنقّل فيها بين معسكرات الاعتقال والمنافي وأعلى مراتب الحفاوة العالميّة

بيار أبي صعب
لولا تلك الرسالة التي كتبها ألكسندر إيزاييفيتش من الجبهة، ذات يوم من 1945، لما انقلب مصير الجنديّ الباسل في الجيش الأحمر، رأساً على عقب، ليصير أحد أبرز أبطال القرن العشرين ربّما، وأشهر رموز الدفاع عن الحريّة (والعداء للشيوعيّة!)... والكاتب العالمي الذي توّج بجائزة نوبل للآداب، وهو عملياً في بداية مشواره الأدبي.
عندما جنّد على الجبهة الشرقيّة عام 1942، كان أستاذ الرياضيات والعلوم، خريج جامعة روستوف الذي درس أيضاً العلوم الإنسانيّة بالمراسلة مع «معهد الأدب والفلسفة والتاريخ» في موسكو، كان متحمّساً للأفكار الثوريّة. وقد استبسل في معارك لينينغراد ضدّ الجيش الألماني، فرُقّيَ إلى رتبة نقيب في سلاح المدفعيّة. لكنّ قدراً أعمى جعل رسالة من النوع الذي كان يكتبه إلى أحد أصدقاء الطفولة، تقع في يد «الشرطة السياسيّة». فيها يعبّر صاحبنا عن خشيته من أن يكون الرفيق ستالين «قد ابتعد عن المثال الأعلى للينين»... بل يذهب في قلّة الاحترام أبعد من ذلك، معتبراً أن «الرجل ذا الشاربين» يتقاسم مع هتلر مسؤوليّة الكوارث التي تكبّدها الشعب السوفياتي، لأنه لم يعرف كيف يتعامل مع الألمان».
كان ذلك كافيّاً لاتهام ألكسندر إيزاييفيتش سولجينتسين بالخيانة، والعداء للشيوعيّة، والتآمر على الاتحاد السوفياتي، ما اقتضى «إعادة تأهيله» في أحد معسكرات الاعتقال في سيبيريا. نحن في عام 1945، وبعد ثماني سنوات في المعسكر تعلّم خلالها مهنة «معلّم باطون»، خرج إلى الإقامة الجبريّة في كازاخستان، حيث انتظر مجيء خروتشيف ومعه مرحلة الانفراج، ليعيد الاعتبار إلى عدد من ضحايا الستالينيّة، فيضع حداً لمنفاه في عام 1956. وفي مدينة ريازان التي انتقل إليها على مقربة من موسكو، عمل أستاذاً للفيزياء في مدرستها الثانويّة، نهاراً. وفي ظلمة غرفته السريّة، راح الرجل يقوم بخطواته الأولى الفعليّة في عالم الأدب، تمهيداً لأن يصبح «سولجينتسين»، أشهر المنشقين في تاريخ الاتحاد السوفياتي، والكاتب الذي سيسافر اسمه (وأدبه) حول العالم، بصفته أوّل من كشف معسكرات الاعتقال الستالينيّة، وصاحب التجربة التي تأسست على مواجهة التوتاليتاريّة.
كتب سولجينتسين مسرحيّته الأولى ذهنياً في المعتقل بعنوان «وليمة المنتصرين»، لكنّه أنكرها فيما بعد. وفي منفاه الكازاخستاني ألّف مسرحيّة أخرى بعنوان «ابنة الحبّ والبريء»، كما باشر في كتابة «الحلقة الأولى» الذي لن يصدر إلا لاحقاً (1968: عام صدور «جناح السرطان» أيضاً)، في الخارج وفي طبعات سريّة في روسيا Samizdat، بعد أن دخل الرجل علناً إلى ساحة المواجهة مع النظام السوفياتي. لكن النصّ الذي لا مفرّ من اعتباره مفترق طرق في مسيرة سولجينتسين وحياته، أبصر النور في ريازان: إنّها قصّة طويلة بعنوان «يوم في حياة إيفان دنيسوفيتش»، مستوحاة من تجربته الشخصيّة في معكسرات الاعتقال. 24 ساعة تختصر هذا العالم المخيف، ونصّ يغرف من التقاليد الكبرى للرواية الروسيّة، يتكلّم بلسان الضحايا الذين لم يخرجوا أبداً من جحيم الغولاغ. في عام 1962، سمح نيكيتا خروتشيف شخصيّاً بنشر النصّ في مجلّة «نوفي مير» الليبراليّة السمعة (الحياة الجديدة)، في سياق سياسته الساعية إلى القطيعة مع الإرث الستاليني. هل كان ذلك خطأ من وجهة النظر الرسميّة؟ المهمّ أن القصّة هزّت الاتحاد السوفياتي، وقُرئت في العواصم الغربيّة، واعتبرت الوثيقة التأسيسيّة لفضح آلة القمع الستالينيّة الرهيبة التي لم تنته برحيل صاحبها.
صار سولجينتسين مشهوراً، لكن الهدنة النسبيّة التي تمتّع بها في مرحلة الانفتاح، ونشر خلالها بعض القصص، لم تدم طويلاً. بعد إزاحة خروتشيف، ستزداد المواجهة مع النظام تصاعداً حتّى الذروة التي نعرف. في عام 1967 كتب «رسالة عن الرقابة» فاضحاً الحصار الذي يلف الفكر والإبداع، فتعرّض لحملة تجريح واسعة من أجهزة الاستخبارات، و... «اتحاد الكتّاب» الذي طرده في عام 1969 من ملكوته! قبل ذاك التاريخ، كان الكاتب قدّ هرّب إلى الغرب مخطوط «الحلقة الأولى» ورواية أخرى من وحي تجربته مع مرض السرطان الذي تغلّب عليه في الأسر: «جناح السرطان» (كتبت بين 1963 و1966). صدر الكتابان في عام 1968.
ثم جاء فوزه بـ«جائزة نوبل» في عام 1970 ليسبّب حرجاً كبيراً للسلطات السوفياتيّة، حتّى إن بريجنيف بذل كل ما بوسعه لمنع الكاتب من السفر إلى استوكهولم لتسلّم جائزته. وكان سولجينتسين قد باشر بكتابة رواية ضخمة عن عالم المعتقلات بعنوان «أرخبيل الغولاغ». Goulag هذه الكلمة التي خلّدها الكاتب، تجمع الحروف الأولى من التسمية السوفياتية الرسميّة لـ«معسكرات العمل» كما كانت تُعرف. عثرت الـ KGB في عام 1973 على نسخة من مخطوط الرواية لدى الصديقة التي طبعتها على الآلة الكاتبة. ثم وجدت المذكورة مشنوقة بعد ثلاثة أيام على اعترافها بالمخبأ، فقرر سولجينتسين تصعيد المواجهة، وأعطى الضوء الأخضر لناشره الباريسي بإصدار جزءين أوّلين كان قد هرّبهما إلى خارج البلاد على مايكروفيلم (الجزء الثالث سيصدر بعد إبعاده عن الاتحاد السوفياتي، عام 1976). صدر الأرخبيل بالروسيّة ثم بالفرنسيّة إذاً، ليترك العالم في حالة من الذهول، وليخلق صدمة لأحزاب اليسار والمثقفين في الغرب، معلناً مرحلة الخيبة من الحلم الشيوعي لدى كثيرين منهم.
وجاء «نداء موسكو» الذي نشره عام 1974، داعياً القادة السوفيات إلى التخلّي عن الماركسيّة والسماح بحريّة التعبير لكل التيارات الفلسفيّة والدينيّة، ليكون النقطة التي أطفحت الكيل. فما كان من السلطات إلا أن جرّدته من جنسيّته، ووضعته على متن طائرة حملته إلى فرانكفورت، لتلحق به زوجته وأبناؤه الثلاثة بعد أسابيع. هكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة أشهر المنشقّين الذي سيتنقّل بين ألمانيا وسويسرا، قبل أن يستقرّ في ولاية فيرموت شمال شرق الولايات المتحدة... حتى عودته «الظافرة» إلى بلاده في عام 1994 بعد رحلة قطار عبر أنحاء روسيا «المحرّرة» استغرقت أكثر من خمسين يوماً.
لقد أفلت سولجينتسين مراراً من الموت. أفلت من ويلات الحرب وأهوال الغولاغ ولعنة السرطان. كان يردد «سأعود إلى روسيا في حياتي»، وهذا ما كان له. وها هو يلتحق بستالين، يأخذ معه قرناً من الطغيان والأحلام الثوريّة المجهضة. لقد شهد موت الشيوعيّة الرسمية ثم مضى وراءها، كما ليؤكّد نهاية تلك الحقبة السوداء... تاركاً للأجيال التي تأتي بعده أن تستعيد المُثل الطوباويّة القديمة، وتواصل الحلم الثوري حيث تركه على الجبهة الشرقيّة، ذلك اليوم من 1945.


البطل الرجعي الذي أحبّه الغرب

رأى الغرب في سولجينتسين كاتباً شجاعاً، ومناضلاً ضدّ التوتاليتاريّة، وجعل منه أحد أبطاله المفضّلين. لكنّه سرعان ما سيكتشف أن صاحب اللحية الطويلة التي جعلت كثيرين يشبّهونه بالأنبياء والقديسين والكتّاب الروس الكبار، ليس أكثر من كاتب محافظ ورجعي وشوفيني ومتديّن... ولاسامي أيضاً! جمع في خطابه، كما لدى اليمين المتطرّف إجمالاً، مقولات متناقضة من الكره للشيوعيّة إلى احتقار الرأسماليّة التي حوّلت العالم إلى بازار كبير، فضلاً عن مناداته بالعودة إلى القيم الأخلاقيّة التقليديّة، وتعصّبه الديني الأرثوذكسي وتمسّكه بعظمة العرق السلافي... المفاجأة الأولى كانت خطابه الشهير في جامعة هارفرد (1978)، ثم كرّت سبحة التصريحات والمؤلّفات، ومن آخرها عشيّة العودة إلى بلاده، الكتاب ذو الوصفات المدهشة الذي بيع بالملايين في روسيا: «كيف نعيد بناء بلادنا روسيا» (1990). هناك أيضاً محاولته تسجيل تاريخ اليهود في روسيا في «قرنان معاً» (2002 ــــ 2003)، من دون أن ننسى مؤلّفه الضخم الذي أعاد فيه، على مراحل، كتابة تاريخ روسيا، أي «العجلة الحمراء» (1972 ــــ 1998).
صاحب «أرخبيل الغولاغ» الذي صار له برنامجه التلفزيوني في روسيا، وخاصم بوتين ثم قَبِل منه جائزة الدولة قبل عامين، كان يتوقّع، بعد العودة من المنفى، أن يؤدي دوراً مهمّاً في بلاده، حيث أعاد إليه غورباتشيف الاعتبار عام 1990. لكن الخيبة كانت بالمرصاد، وزعماء المافيا الجدد كانوا قد أخذوا مكانه. هكذا ابتعد عن الأدب وبات يعدّ نفسه مؤرّخاً في المصاف الأوّل.
غير أن الأعمال الأدبيّة ستبقى تلاحقه، وقد فرغت من بُعدها الآني (الدعاية المضادة للشيوعيّة)، لتقول رحلة البحث عن الحريّة في كل زمان ومكان. نصوص ذات بنية دراميّة متينة، الزمن فيها مكثّف، والمكان مغلق (الزنزانة، المعسكر، غرفة المستشفى)، ما يعطي لأعماله بعداً تراجيدياً أكيداً. كما أنها تقدّم غالباً لوحة اجتماعيّة واسعة تحتضن صراع الجلادين والضحايا، البسطاء والجبابرة، الفلاحين والمثقفين... علماً بأن البعد الاجتماعي لا يكفي لتحديد الشخصيّة بالنسبة إلى سولجينتسين، فالعنصر الحاسم ــــ كما يقول ــــ هو «الخيار الأخلاقي»!