أفرغت بيروت من لونها. مشهد سيثقب رأس المتفرّج إذا رمى نظرة إلى أسفل، من الطبقة السادسة لفندق «لو غراي» (وسط بيروت). سيلمس هذا الفراغ فور رؤية «بيروت تتحرك». في المعرض الفوتوغرافي، صور من أرشيف وزارة السياحة اللبنانية طغى اللونان الأسود والأبيض على معظمها. تعكس اللقطات النوستالجية الحياة اليومية لبيروت ولبنان الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. نرى الأشجار الممتدة على طول كورنيش المنارة، وفندق «السان جورج»، و«الكارلتون»، وسكة القطار في عنجر، والمقاهي والمدارس، ووجوه رجال الأعمال، والعارضات والبائعين والأطياف التي ضاعت في الذاكرة. يمنحنا هذا الأرشيف/ الكنز، سهولة المقارنة بين بيروت «المتحركة» المتلاشية، وتلك الظاهرة أمامنا كصخرة، من النوافذ.

ولعل هذه الحسنة الوحيدة التي يحملها لنا مكان العرض. اختيار فندق «لو غراي»، لاحتواء معرض توثيقي لإرث بيروت الزائل، بدا عصياً على الربط مع الصور، باستثناء استثارة هذا التناقض الصارخ، الذي لم يكن مقصوداً بالطبع من قبل الجهة المنظمة.
إلى جانب فندق «لو غراي»، تحتضن أماكن تجارية، وفضاءات ثقافية في بيروت معارض الدورة الثانية من النسخة اللبنانية لـ«فوتوميد» (مهرجان التصوير الفوتوغرافي المتوسطي)، الذي انطلق، قبل خمس سنوات في فرنسا، لإظهار الروابط بين دول حوض المتوسط بصرياً.
النسخة اللبنانية التي تستمر حتى 11 شباط (فبراير)، تحوّلت إلى منصة تجمع الفوتوغرافيين المخضرمين والشباب من فرنسا ولبنان واليابان، والجزائر والمغرب وإسبانيا، بينما تحل إيطاليا ضيفة شرف من خلال المعارض الجماعية، ومعرض للمعلم الإيطالي ميمو جوديس.

وإذا تم التركيز على الأرشيفات البصرية القديمة للشرق في بعض الغاليريات، فإن هذا لا يشمل المعارض الـ 14 في المهرجان البصري. هكذا شاهدنا أعمالاً فوتوغرافية تجريبية تقارب الحالات النفسية والهندسة المعمارية والذاكرة إلى جانب الريبورتاجات والصور التوثيقية.
لكن المضمون غاب عن بعض الصور حيث سجّلت الأفكار هشاشة لصالح الاهتمام التقني، مجرّدة التصوير الفوتوغرافي من إحدى أهم وظائفه الحديثة، وهي الفكرة لا الشكل فحسب. الفنان الإيطالي القادم من نابولي ميمو جوديس (1934)، يشهد احتفاء خاصاً هذه السنة. نشاهد معرضه «البحر الأبيض المتوسط»، في «بنك بيبلوس» في الأشرفية. تتنقل عدسة المصور الإيطالي بين التماثيل والشواطئ والعمارة القديمة، مستحضرة التراث الروماني واليوناني في إيطاليا. لقطاته المقربة بالأسود والأبيض، توقظ أرواح التماثيل التي تطالعنا وجوهها عن قرب. يؤنسن التماثيل، عبر الظلال وتظهير ندوبها، وأنوفها المقطّعة والأعمار التي تسكن عيونها.
في أسواق بيروت، داخل سوق الصاغة الجديد، تقع أعيننا على صور إيطالية في معرض «أحلام ورؤى» الجماعي الذي يضم صوراً لسيلفيا كامبوريسي وسيمونا غيزوني وبياتريس بيديكوني. تسيطر الأجواء الميلانكولية على الفضاء الداخلي في معظم صور سيمونا غيزوني، مسجلة اختفاءات متكررة للشخص الأنثوي في الصور؛ ظلال وهالات ثقيلة، وألوان داكنة وحالات نفسية متهاوية. أما صور سيلفيا كامبوريسي التي يظهر بعضها ثياباً ملونة محلقة في الفضاء، فتقترب من اللوحات الترويجية لفكرة «الحياة مشرقة حقاً».
في المعرض الإيطالي الآخر «مشاهد يومية» نستكمل مع ماسيمو سيراغوسا، في لقطات لأبنية ومكتبات تشبه الإعلانات السياحية. أمكنة لامعة كصورة المكتبة الضخمة، أو العمارات المنمقة الخالية من أي معنى، التي لا ينقصها سوى سائح بسروال قصير وقبعة من القش لتكتمل الغاية. في «غاليري بلاك» في أسواق بيروت أيضاً (!)، توثق الفنانة المغربية ليلى علوي، في مجموعتها «المغاربة»، لكافة الأصول المغاربة وأعراقهم وإثنياتهم من خلال الثياب والأزياء الغنية.
الوجوه الكهلة أو الطفولية تحدق بالكاميرا، أمام خلفية سوداء موحّدة. إلى إحدى ضواحي وهران الجزائرية يأخذنا الفوتوغرافي الجزائري أرسلان بسطاوي إلى العالم السفلي لسيدي الهواري. معرضه «نساء سيدي الهواري» في Station (جسر الواطي) مليء بوجوه الأمهات العازبات اللواتي يعشن وحيدات مع أطفالهن. وجوه تبدو منسوخة عن البيوت والأحياء التي تسكنها. ديكورات متقشفة، وأبنية متهالكة تملأها الثياب المعلقة ببؤس على الحبال. إنها بورتريهات الفقر، والانكسارات التي تبدو لامتناهية ما دام هذا إلإهمال مستمراً. وعلى غرار ريبورتاج بسطاوي، أنجز باتريس تيراز سلسلته Welcome On Board في «المعهد الفرنسي». تتبع المصور الفرنسي المصائر المعلّقة للبحارة على متن السفن المهجورة في إسطنبول وداكار وموانئ أخرى. شبان ورجال، يعيشون حالات انتظار مستحيلة للعمل أو لنيل الأجر. رغم كل ذلك، هناك أمل مستحٍ تبرزه التفاصيل البسيطة، كمعجون الأسنان، والصحون الفارغة والأغراض الشخصية الأخرى. ولعل أكثر المعارض جدية وإدهاشاً هو «حقائق مجردة» (في Station) لسيرج نجار الحائز جائزة المسابقة الأولى لـ«مهرجان فوتوميد». يظهر الفوتوغرافي اللبناني العلاقة بين الناس والعمارة. يلجأ إلى التقاطعات الشكلية والتكرارات الهندسية الذكية، ولعبة التنافر اللوني، ليقترب بذلك من الفن التشكيلي التجريدي. علاقات يبدو فيها الإنسان مغترباً أمام العمارات العملاقة، بينما يجعله الارتباط الوثيق متداخلاً معها، فيتساوى مع الحجارة والعناصر الهندسية، كأنه جزء من الديكور.
لبنان حاضر من خلال صور الأرشيف. هناك مجموعتان من أرشيف «المكتبة الشرقية» في «الجامعة اليسوعية» تعود إلى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تعرض في «غاليري 169». تضم «رحلة إلى الشرق» عشرين صورة ملوّنة باليد للمصوّر والصحافي شارل لالمان التقطها في زوق مكايل والشويفات ودمشق بين 1864 و1865.
يظهر سيرج نجار
العلاقة بين الناس والعمارة
في «حقائق مجردة»

في «وجوه من الشرق» نرى صوراً بالأبيض والأسود التقطها اليسوعيون لسكان أرمينيا ولبنان وسوريا، خلال النصف الأول من القرن العشرين. حملت المجموعتان، مجتمعة، صوراً تقريبية لماض شرقي هارب، أتيحت لنا رؤيتها في «فوتوميد» البيروتي، الذي بدا مفتقراً إلى أبسط الخطوات التنظيمية. هكذا غابت الترجمة العربية لنبذات المعارض وشروحاتها لصالح اللغتين الإنكليزية والفرنسية. نقص يعيد سؤالاً، لا شك أنه بسيط ومستهلك، حول الجمهور الذي يتوجّه إليه «فوتوميد». تستثير هذا السؤال، بعض أماكن العرض التي اختارها المنظمون في أسواق بيروت وفندق «لو غراي» و«بنك بيبلوس»، وهي أبعد ما يكون عن استعادة الذاكرة، وعن التوجه الفني للأعمال.

* «فوتوميد»: حتى 11 شباط (فبراير) ــ فضاءات مختلفة في بيروت.www.photomedliban.com