بقلم: سماح ادريس
طرحنا على بعض الناشرين العرب سؤالاً بسيطاً: لماذا تنشر؟ هنا ردّ رئيس تحرير مجلّة «الآداب» أنشر لأنّني لا أعرف مهنة أخرى أعيش منها بشرفٍ وكرامة (غيرَ التعليم الذي أكرهه). أنشر لأنّ أبي وأمي أورثاني كمّياتٍ هائلة من الكتب والمجلات، ومعها مستودعٌ رطبٌ ورفوفٌ صدئةٌ وصناديقُ ونستون ومالبورو (ولا يخلو الأمرُ أيضاً من بضعة صراصير وفئران اقتاتت على وجودية سارتر وإباحية مورافيا وكولن ويلسون زمناً طويلاً). أنشر لأنني أعجز عن الكتابة أحياناً، أو لأنني أقرأ مادّةً تعبّر عمّا كنتُ سأقوله بنفسي، فإذا بها تقوله بجمالٍ أكبر أوقوةِ إقناعٍ أعظم.
أنشر لأني أبلغ قمّةَ التشاؤم من الوضع العربي، أو لأنني أحلّق عند ذروة التفاؤل (والحالة الأخيرة لا تتعدّى الهنيهات).
أنشر (وأكتب) لأنني ما زلت أؤمن بدوْرٍ للكلمة في مواجهة أعداء الحرية، كالعسكر ورأس المال والناطقين باسم الله. و بكلامٍ آخر:
أنشر كي أسهم في «نشر عرض» القامعين والمنافقين وتجّار المرأة والوطن والدين.
أنشر، طولاً وعرضاً، من بيروت إلى أوستراليا، ومن العربية إلى اليابانية، كي لا يصدّق اللبنانيون أنّ بلدهم هو صانعُ الحضارة (يعني السيفيليزاسيون) الأوحد، وخاتمُ أنبيائها، ومحطّمُ أرقامها القياسية، أو كي لا يتوهّموا أنّ العالم بأسره منقسم إلى 14 آذار و8 آذار.
أنشر (وأترجم) لأنّ «الآداب» الأخرى التي أنشرها (وأترجمها) تثري لغتي، التي لا أرى لي وطناً ولا حياةً خارجها.
أنشر (وأكتب) كي تعْرف ابنتاي الصغيرتان أنّ العربية لم تتحوّلْ (بعدُ) إلى ديناصورٍ منقرضٍ على شاشات حاسوبهما الصغير، وأنّ ثمة كتباً لا تزال تصْدر فعلاً بلغاتٍ غير «الإنجليش» و«الفرانسيه».
أنشر كي أسهم في ألّا تبقى هذه المهنةُ النبيلة السامية في يد «ناشرين». كثيرٌ منهم خَدَمُ سلاطين، وتجّارٌ بلا قلبٍ أو رسالة، وقراصنةٌ جشعون، ومزوّرون نصّابون، ومذهبيون، وطائفيون.
أنشر كي أعزّز الخيارات العلمانية والقومية ــــ اليسارية وسط طوفان التنظير للواقعية والقطْرية و«الليبرالية»، ولأدفعَ قدُماً بالأدب الراقي الممتع الجريء في خضمّ الرداءة والاستسهال والقيود.
أنشر لأنْ لا كتابة بلا نشرٍ أو ناشرين، كما أنه لا حرية بلا كتابة. فلو لم يكن ثمة ناشرون صلبون لما عرفت الثقافةُ العربية «نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم (دار الطليعة)، و«الإسلام في الأسْر» للصادق النيْهوم (دار رياض الريّس)، و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ (دار الآداب)، و«أحد عشر كوكباً» لمحمود درويش (دار الجديد)، و«هوامش على دفتر النكسة» لنزار قبّاني (مجلة الآداب)، وعشرات الإبداعات الجديدة الممنوعة في أوطانها في الأمس القريب واليوم.
أنشر لأني أحبّ أن أشركَ الآخرين في قراءة ما يصلني من موادّ، سواء للمجلة أو للدار (هاكم أحد الأسرار: أحياناً أنشر مادّة لا لأنني أحببتُها بل لأنني أحسستُ بأنّ غيري قد يحبّها؛ فإنْ حصل ذلك بعد النشر فعلاًً، زهوتُ بنفسي وسعةِ صدري).
أنشر وفاءً وحبّاً لمن اعتبروا النشرَ جزءاً متمِّماً لعملهم في الكتابة والثقافة والسياسة، فعانوا الرقابة وإتلافَ الكتب والنفيَ والتهميش... ثم غادرونا وهم يخشوْن أن يلتفتوا إلى الوراء.