محمد خير هي فكرة غير اقتصادية إطلاقاً، أن يفكر مثقف مصري في السفر خصيصاً لحضور معرض بيروت، ليس فقط بسبب الكلفة المادية وفرق العملة وأسعار الكتب، بل لأن المعرض اللبناني الشهير هو للقارئ المصري، مختبر الكتب التي ستأتي بنفسها بعد أقل من شهرين إلى مصر ضمن فعاليات المعرض القاهري الدولي. ذلك الأخير الذي يزوره حوالى مليوني زائر، هو السوق الأوسع للكتاب العربي. على رغم ضعف القوة الشرائية للمصريين، إلا أنّه ضعف تعوّضه الكثرة، فضلاً عن الأعداد الكبيرة للطلاب العرب الدارسين في مصر. بين أجنحة المعرض المصري، تبدو الدور اللبنانية عادة هي درّة التاج. أما معرض بيروت، فهو في الذهنية المصرية أقرب إلى المعارض غير المخصصة للبيع، احتفالية يبدو فيها البائع أغنى من الشاري، ومنافسة لاستعراض الأغلفة الجذابة والعناوين الممنوعة والترجمات الجديدة.
«التخزين» هو النشاط الذي يميّز الكتاب اللبناني في القاهرة، فالدور اللبنانية لا تودّ بطبيعة الحال أن تتحمّل كلفة نقل كتبها ذهاباً وإياباً، لذا فإنها تتفق مع مكتبات مصرية، على الاحتفاظ بنسخ الكتب وعرضها في القاهرة، على أن تجري «المحاسبة» سنوياً أثناء المعرض القاهري، ما جعل الكتاب اللبناني متاحاً طوال العام في شوارع المحروسة. بهذا المعنى، لم تعد القاهرة وبيروت عاصمتين مختلفتين. فكتب كل منهما تتجاور دون فرق على الأرصفة ورفوف المكتبات، والرقابة المصرية على النشر لم تعد بالشراسة القديمة. لذا فإن الأرصفة كثيراً ما تزدحم بكتب يفترض أنّها «ممنوعة»، بينما يعلم الجميع أن النشر الإلكتروني والوسائط التكنولوجية الحديثة جعلت من «المنع» مجرد قرار إداري نادراً ما يمتلك قوة التنفيذ، بل يعبر غالباً عن توازنات سلطوية دينية. بالتالي، فإنّ المنع أصبح وصمة أو موقفاً أكثر مما هو آلية قمع. أما الكتب «الممنوعة» نفسها، فهي متوافرة ومتاحة بصورة أو بأخرى... ولا شك في أن انفتاح الأمر الواقع هذا، أخذ كثيراً من «ضرورة» بيروت كعاصمة النشر غير المقيّد... علماً أن هناك حدوداً لهذه الحريّة، مثل منع رواية «شيفرة دافنشي» التي صدرت عن دار لبنانية هي «العلم للملايين». إلا أنّ المنع يظل ـــ رغم كل شيء ـــ استثناءً في بلد يشهد مفارقة عجيبة، إذ إن كتّابه نادراً ما يعانون السجن أو المنع، لكنهم يعرفون الاغتيال والقتل!
ظواهر أخرى أثّرت سلباً على موقع بيروت على الخريطة المصريّة، ليس بالنسبة إلى القارئ فحسب بل إلى الكاتب نفسه. السنوات الأخيرة شهدت ضخ أموال كثيفة في مجالات الإعلام والثقافة والميديا في مصر، ازدهرت الصحف والتلفزيونات الخاصة، وانتعشت سوق الكتاب لأسباب فنية وتجارية، وتأسست جوائز أدبية مستقلة مجزية لا تفتقر إلى الصدقية، وكثير من دور النشر المصرية الجديدة بدأ يعالج العيب الشهير في الكتاب المصري وهو قبح الأغلفة. بدأت تلك الدور بالتعاقد مع عدد كبير من المصممين الشبان، بل غامرت إحدى أحدث تلك الدور أي «ملامح» وشاركت بصورة مستقلة في معرض «بيروت» على غرار الدور المصرية الكبيرة مثل «مدبولي» و«الشروق». والأخيرة اهتمت أخيراً بالكتّاب الشباب، فتعاقدت مع عدد من الناجحين منهم، بعد وقت قليل من تعاقدها مع كبار الكتّاب المصريين، ما دعا بعضهم إلى وصف سلوكها بالاحتكاري. لكن المؤكد أنّ «الشروق» وغيرها من الدور المصرية التي تتنافس على جذب الكتّاب وإقامة حفلات التوقيع والتعاقدات المادية «المنصفة»، سرقت جزءاً مهماً من الوهج الذي كثبراً ما انفردت به بيروت. مع ذلك، فالنشر في العاصمة اللبنانية يبقى له سحره الخاص.