دريدي وبيغيتش وبهراني: أفلام صغيرة نجحت عالمياًعثمان تزغارت
مثّل عوالم الطفولة المشرّدة لازمة كلاسيكية في السينما. من «الطفل» (شارلي شابلن ــــ 1921) إلى Pixote (هيكتور بابنكو ــــ 1980)، مروراً بـ Los Olvidados (لويس بونويل ـــ 1950)، شهد الفنّ السابع عبور صنف جديد من «الأبطال الصغار» الذين يكافحون لتحقيق مكان تحت الشمس في محيط عدائي يسلّط عليهم مختلف أشكال الإقصاء والتهميش. خلال العقد الأخير، احتلّت تيمة الطفولة المشرّدة، واجهة السينما العالمية من خلال فيلمين، مغربي وياباني، صنعا شهرة مخرجيهما، وحصدا عشرات الجوائز في مهرجانات شتى. الأول هو «علي زاوا» (نبيل عيوش ــــ 2001) الذي صوّر معاناة «أطفال الشوارع» في الدار البيضاء، وصراعهم من أجل البقاء وسط محيط لا يرحم. وقد حصد الشريط «جائزة الجمهور» في أربعة مهرجانات أوروبية (أميان، بروكسل، مونبلييه، ونامور). أما الثاني، فهو Nobody Knows (هيروكازو كوري إيدا ــــ 2004) الذي قدّم نظرة تشريحية قاسية للمجتمع الياباني من خلال قصة أربعة أطفال أشقاء منسيين في زحمة طوكيو. وقد سحر الفيلم الكروازيت في مهرجان «كان ــــ 2004»، فراحت جائزة أفضل ممثل لـ«بطله الصغير» ياجيرا يويا (14 سنةوها هي عوالم الطفولة المشرّدة ذاتها تعود لتحتلّ الصدارة خلال الموسم السينمائي الحالي. بين موجة الأفلام السياسية المرتبطة ببوش والانتخابات الأميركية الأخيرة، و«أفلام الأكشن» التي افتُتح موسمها الحالي بجديد «جيمس بوند» ليستمر خلال الشهرين المقبلين من خلال أفلام أعياد الميلاد... استطاعت ثلاثة أفلام صغيرة أُنجزت بميزانيات متواضعة شق طريقها نحو صدارة دور العرض العالمية، من خلال قصص إنسانية مؤثرة تدور في عوالم الطفولة المشرّدة. هذه الأفلام هي «خمسة» للفرنسي من أصل تونسي كريم دريدي، و«الثلوج الأولى» للبوسنية عايدة بيغتش، وChop Shop للأميركي من أصل إيراني رامين بهراني.
يروي كريم دريدي في «خمسة» قصة طفل يتيم من أصول غجرية وعربية مختلطة، يدعى ماركو، يفر من العائلة الفرنسية التي تبنّته ليعود إلى المخيم الغجري الذي نشأ فيه، قرب حي شعبي في مارسيليا، وإلى أصدقاء طفولته توني وكويوت ورشيد. وعلى خلفية صراع البقاء الذي تخوضه شلة الأطفال هذه، من خلال ممارسة السرقات الصغيرة، واغتنام متع الحياة البسيطة والنادرة في محيطها الهامشي، يقدّم الفيلم صورة واقعية آسرة عن الحياة الغجرية، بأسلوب لم يسبق أن رأيناه في السينما منذ رائعة أمير كوستوريتسا «زمن الغجر» (1989).
البوسنية عايدة بيغتش اختارت أن تصوّر بعيون شلة من الأطفال اليتامى معاناة ما بعد حرب التطهير العرقي في البوسنة. جاء ذلك من خلال قصة تدور أحداثها في 1997، في قرية سلافنو المعزولة، في الجبال القريبة من سراييفو. خلال الحرب، تعرّضت هذه القرية لمجزرة جماعية ذهب ضحيتها كل سكانها البوسنيين، ما عدا شيخاً مقعداً وست نساء مسنّات وأربع بنات وولداً واحداً. مع اقتراب الشتاء، يحاول السكان الناجون توفير مصدر رزق من خلال تكليف شلة الأطفال أن تبيع على جوانب الطرق المجاورة علب مربى البرقوق الذي تصنعه النساء المسنّات، ليسبقوا الزمن قبل وصول “الثلوج الأولى” التي ستعزل القرية عن العالم الخارجي طوال أشهر الشتاء. وإذا بسكّان القرية يتلقّون عرضاً مغرياً من سكان صرب من قرى مجاورة لشراء بعض أراضيهم الزراعية بمبالغ مجزية. لكن هذا العرض يضع سكان القرية البوسنية أمام معضلة أخلاقية: هل يجب رفض ذلك، وفاءً لذويهم الذين سقطوا بأيدٍ صربية في حرب التطهير العرقي؟ أم هل يجب طي صفحة الماضي، وقبول التعايش مع الصرب مجدداً؟
في خضمّ الجدل والتجاذب بين سكان سلافنو، بين مؤيد لهذا العرض ورافض له، تزور مجموعة من جيرانهم الصرب القرية للتفاوض بشأن صفقة الأراضي. لكن “الثلوج الأولى” تبدأ بالهطل فجأة، ليجد الزوار الصرب أنفسهم معزولين عن العالم الخارجي برفقة سكان القرية، ومضطرين للبقاء في ضيافتهم حتى نهاية الشتاء. وإذا بالتعايش يصبح أمراً واقعاً مفروضاً على الطرفين بقوة الطبيعة!
قبل أن يشق هذا الفيلم البوسني طريقه بنجاح نحو صدارة الصالات العالمية، كانت مخرجته قد أحرزت في مهرجان «كان» الأخير الجائزة الكبرى لـ«أسبوع النقاد». وقبل أيام، أحدثت الأكاديمية الهوليوودية المفاجأة، حين اختارت هذا الفيلم ضمن القائمة الأولية للأفلام المرشّحة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2009 (راجع الصفحة المقابلة).
أما رامين بهراني، فيسلّط الضوء في فيلمه Chop Shop على عوالم الطفولة المهمشة في حي كوينس، في ضواحي نيويورك، من خلال قصة يتيمين من أصول لاتينية، هما أليخاندرو (12 سنة) وشقيقته إيسامار (16 سنة)، اللذين يتقاسمان غرفة قصديرية وسط مقبرة سيارات شهيرة، تُعرف باسم «مثلث الصفيح النيويوركي». يشتغل أليخاندرو في ورشة تصليح سيّارات، بينما تعمل شقيقته نادلة في مطعم متنقل، ويحلمان بالخلاص من خلال شراء شاحنة لتحويلها إلى مطعم متنقل، ما يزج بهما تدريجاً نحو ممارسة سرقات صغيرة شتى، ويعرّضهما للكثير من المتاعب والمخاطر. ويتّسم الفيلم ـــ رغم قسوة حياة بطليه الصغيرين ــــ بكثير من الشاعرية والجمال، إنها النظرة الأميركيّة التي تراهن في النهاية على روح التفاؤل... وحبّ الحياة!

مخرجو المعاناة والألم والعوالم المهمّشةمن جهتها، زارت عايدة بيغتش مدينة سريبرينتسا التي كانت ضحية أكبر مجزرة تطهير عرقي في البوسنة، قُتل خلالها عشرة آلاف شخص عام 1995. أقامت المخرجة البوسنية الشابة شهوراً طويلة وسط الناجين من المجزرة، وسعت إلى رصد ردود أفعالهم وتصوّراتهم لمستقبل بلادهم بعد الشرخ الذي أحدثته فظائع التطهير العرقي. ومن يومياتها وسط سكان سريبرينتسا، استوحت قصة «الثلوج الأولى» الذي يعدّ أول فيلم روائي طويل من إخراجها. وقد فضّلت أن تروي في «الثلوج الأولى» معاناة ما بعد حرب التطهير العرقي في بلادها بأعين شلّة من الأطفال الناجين من المجازر. أما رامين بهراني، فإنه ـــ وإن كان أميركي المولد والجنسيّة ــــ إلا أنّه خرج من معطف السينما الواقعية الإيرانية التي تركت بصمات واضحة في أعماله، بدءاً بفيلمه الثاني Man Push Cart الذي صوّر خيبات مغني روك باكستاني يقرّر الهجرة إلى أميركا، للإفلات من التقاليد المحافظة في بلاده. فإذا بالحلم الأميركي يتحول إلى كابوس، حيث يضطر لكسب لقمة العيش في نيويورك إلى الاتّجار في الحلويات الباكستانية.. التقليدية!
وقد برزت هذه التأثيرات الإيرانية في Chop Shop من خلال المنحى التوثيقي الذي اعتمده، إذ أجرى أبحاثاً ميدانية مطوّلة في «مثلث الحديد النيويوركي» من أجل محو الفوارق بين الواقع والتخييل.