في «عصير الزنزلخت» يسرد الكاتب اللبناني قصّة الحبيبة التي سرقها «المريد» من معلّمه، مركّزاً على العلاقات الإنسانيّة على حساب بناء الشخصيّات أحياناً
حسين السكاف
العلاقة بين الشيخ والمُريد، تلك العلاقة الإنسانيّة المتكررة بصراعاتها وخيباتها وحلاوتها منذ القدم، يضعها أمامنا جورج شامي في روايته «عصير الزنزلخت» (دار الريّس). علاقة نتلمّس حلاوتها في قلب بيروت، أواسط القرن المنصرم، بين شاب وأستاذه يربطهما الوعي الثقافي والسياسي والهموم المشتركة. لم يعمد الأستاذ إلى أداء دور العرّاب مع تلميذه، إلا أنّ شغفه بالأدب والشعر، وذلك الحدس الذي تولّد لديه في اكتشاف موهبة تلميذه القصصية دفعاه إلى تلميذه وإلى موهبته وشخصيته «الإبداع ليس وثناً أو كائناً خرافياً، إنّه من صنع الإنسان. إنّه خط يأتي من بعيد ويتخذ لونه أو شكله من خلال المبدع الذي يقتنص هذا الضوء القادم من بعيد ويضعه بهذا الشكل أو ذاك». هكذا زرع في روح تلميذه بذرات يطمح منها حصاداً أدبياً خاصاً. أما التلميذ ـــــ الراوي والعارف بكل أحداث روايته ــــــ فلم يكن الحديث عن أستاذه وعلاقته به، فكرة روايته الأساس. كان يريد أن يمهّد للقارئ بهدف الدخول إلى رواية أخرى كتب أستاذه فصولاً منها منذ زمن بعيد، «بيني وبين أستاذي إبراهيم، حورية تدعى ميرا، أفنى زهرة شبابه في إبداعها، وسحرتني قبل أن أتعرّف إليها (...) ولم يتسنَّ لي أن ألمسها، ولا أن أملّي عينيّ بالنظر إلى جمالها وأنوثتها، لا صدفة ولا عمداً». إنها «ميرا» إذاً، الرواية التي تركها الأستاذ منقوصة ولم يكملها، ما دفع بالتلميذ المخلص إلى نشرها كما هي، كفصل أخير من روايته «عصير الزنزلخت».
اكتفى الراوي بشخصيتي الأستاذ والتلميذ بطلين لروايته. الشخصيات الأخرى ظهرت فقط من خلال مخيّلة التلميذ والأستاذ من دون حوارات مباشرة. والواضح أنّ الأحداث والأفكار التي جاءت بها الرواية حظيت باهتمام الراوي أكثر من شخوصها، ما يبعد ـــــ نسبياً ـــــ طابع السيرة الذاتية عنها. الهدوء المشبع بخصوصية التذكّر والخيال كان مهيمناً على الرواية. حتى لحظات التمرد، لا تظهر إلا بالخيال. صحيح أنّ هناك وصفاً لحالات مغامرة، كعلاقة الأستاذ بالجارة المتزوجة، لكنّها تبقى مجرد تخيّلات نسجها التلميذ.
بخبر موت الأستاذ، يشعر القارئ بهوّة زمنية كبيرة تقارب ربع قرن. إذ يفاجئنا الراوي بأنّه سافر إلى لندن منذ 25 سنة، وكان آخر لقاء بأستاذه قبل سفره «حين عُيِّنت بدلاً منه مديراً لكلية الإعلام والتوثيق، وبقي هو أستاذاً فيها». لكن كيف تلقّى التلميذ خبر موت أستاذه؟ «حين جاءني نعيه وأنا في لندن، بعيداً عن الوطن والأحباب والأعزاء، جاءني مرّاً كطعم الزنزلخت، وأحسستُ زلزالاً شقّ الطريق التي كانت تصل بيني وبينه». ثم راح يترجم أحاسيسه متذكّراً تلك المخطوطة الناقصة التي شرع الأستاذ بكتابتها قبل نصف قرن «الرواية التي انكبّ على كتابتها وهو في ريعان الشباب، وعلّق عليها كل آماله الإبداعية فلم يكمّلها... ازداد إحساسي بأنها صارت في ذمتي... لا أحد يستطيع أن يقدّر مبلغ فرحتي وسعادتي باحتفاظي طوال ما يقارب أربعين سنة بفصول «ميرا» التي وجدتها في أدراج مكتبه في جريدة «الحياة» وصنتها من العبث والضياع». لكن، هل قام التلميذ بإخبار أستاذه عندما أخذ مخطوط الرواية؟ أم أنّ الأستاذ عانى الوهن بسبب فقدانه لمخطوطة «ميرا» التي تحتفظ بين طيّاتها بصورة الحبيبة التي عاش على ذكراها أغلب سنوات عمره من دون أن يعرف أن تلميذه من أخذها؟
ينهي التلميذ روايته، لتبدأ رواية أستاذه: «ميرا ـــــ فصول لقيطة من رواية ناقصة» التي ما إن يقع القارئ على سطورها الأولى حتى يتلمّس تبايناً كبيراً بين الأسلوب السردي الذي اعتمده التلميذ، وشعرية الأسلوب وجمالية الوصف الذي يتبعه الأستاذ، ليدلنا على أن الصدارة تبقى دائماً من نصيب الشيخ مهما تفوّق المُريد. رواية «ميرا» تذكّرنا بأجواء الأفلام السبعينية. موت الحبيبة في ريعان الشباب وبقاء الحبيب متلذذاً بألمه وذكرى حبيبته. ومن سير الرواية الناقصة، يستشفّ القارئ السبب الحقيقي الذي كان وراء عدم إنهاء الأستاذ لروايته، فيبدو أنّه كان يريد الاحتفاظ بميراه وذكراها أطول وقت ممكن، وهذا ربما ما فات التلميذ تلمّسه رغم ملازمته لأستاذه سنوات طوال. إن إتمام الرواية يعني الاعتراف بحقيقة موت الحبيبة، وهذا ما لم يفعله العاشق احتفاظاً منه بجمال الصورة ولذة الذكرى.