حسين بن حمزةفي مجموعة «موت مؤجل في حديقة» (الهيئة العامة لقصور الثقافة ــ القاهرة)، وهي الرابعة للشاعر المصري محمد الحمامصي، يشعر القارئ بأنّه يقرأ نصّاً واحداً يتتالى ويتكرر على مدى الصفحات. لعلّ تقسيم الشاعر لمجموعته إلى ستة عناوين رئيسة وعدم وجود عناوين خاصة بكل قصيدة أو مقطع داخل هذه الأقسام، يجعل استسلام القارئ لهذا الشعور سهلاً ومغرياً وطبيعياً. لكن هل هذا يُحسب لمصلحة المجموعة أم يُحسب عليها؟ يُقال إنّ النبرة الواحدة أو المزاج الواحد يقوِّي أي كتاب شعري ــ وغير شعري ــ ويجعل له عصباً وحساسيّةً وخصوصيّةً. لكن لا يُعقل أن يكون هذا المزاج صفةً حميدةً على الدوام. المشكلة أنّ الإحساس المتشابه الذي تخلقه نصوص الحمامصي قائم في بنية هذه النصوص التي غالباً ما تسمح لأي جملة أو صورة بأن تتسلَّل إليها، سيَّان إن كان ذلك ضرورياً أو نافلاً. ليست هناك سياسة لضغط النص الشعري وجعله مساوياً لمعناه ومقاصده. ثمّة رخاوة وتساهل في كتابة من هذا النوع، حيث يبدأ كل نصّ بعبارة استهلاليّة سرعان ما تتحول إلى مفتاح سردي أو قصصي. وهذا ما يكثِّر نثرية النصوص المكتوبة كقصائد نثر أصلاً. ليس كل نثر مفرطٍ في نثريته سيئاً بالطبع، لكن إذا كان النثر نفسه رخواً في الأساس، فهذا يسهِّل أن يصبح كتابةً فيها معظم أو كل متطلبات الشعر وشروطه، ولكن الشعر الحقيقي والحار قليلٌ ونادرٌُ فيها.
نصّ الحمامصي ميَّال إلى الشرح والاسترسال، رغم أنّه يحاول رسم مشهدٍ أو كتابة حالة. أحياناً يبدأ القصيدة ولا يعرف كيف ينهيها. وأحياناً أخرى لا يعرف القارئ لِمَ بدأت القصيدة بالطريقة التي اختارها الشاعر. لنقرأ هذا المقطع «أقسمت له إنها تحبه/ إذْ لا بدّ أن تحبه/ وأمسكت بيده حتى انفجر منها الماء/ الماء يلامس وجهه/ الماء يجرف الجسد/ الماء على عتبة الروح/ الماء مقعد في غرفة». ولنقرأ أيضاً هذا المقطع المفرط في الخطابية «الجسد بيت الوطن/ الوطن ليس بيتاً للجسد». الاسترسال يأتي من تكرار الصفات من دون منافع إضافية «الماء الذي يتخلل المسافة بينهما/ أقام جزراً وجبالاً وتلالاً ومتاريس/ رسم حدوداً/ وصف جنوداً...». في هذا النص، يضع الشاعر ستة مفردات تفيد معنىً واحداً. وفي نص آخر، يستثمر رومانسية بائدة «الفرح أن ترى حبّكَ في عينيها/ يزغرد حين تطل صورتك من نافذة القلب». وفي نص ثالث، يصعب علينا أن نتخيَّل الصورة التي «يبتكرها» الشاعر: «الوجه مقبض سكين/ والرأس نصلها»، إذْ لا بدّ أن يتساءل القارئ عن الفرق بين الوجه والرأس هنا، وكيف يصلح الأول أن يكون مقبضاً والثاني نصلاً!
بين حين وآخر، يعثر القارئ على صورٍ واستعاراتٍ معقولة ولافتة أيضاً، ثم ينتبه إلى أن هذه الصور غالباً ما تكون موجودة في نصوص قصيرة جداً، أو يكون النص نفسه عبارة عن صورة شعرية واحدة، حيث يصبح للكتابة حينها بؤرة وعمق وتركيز، كما هي الحال في هذا المقطع «البئر جفَّ ماؤها/ العطش/ الآن/ بلا وجهة».
على أيّ حال، قليل هو هذا النوع من الصور التي يلمع بصيصها هنا وهناك، وسط المساحة الشاسعة الممنوحة لما هو عادي وأكثر من عادي. إنّها ضائعة، وبالكاد يلحظها القارئ وهو يجول في صفحات المجموعة.