بيار أبي صعبأياماً قليلة بعد محمود أمين العالم، رفيقه في النضال، وشريكه في التأسيس لمشروع عقلاني ونهضوي عربي، انطفأ في القاهرة العالِم والمفكّر عبد العظيم أنيس (1923 ـــ 2009) الذي جمع بين المفكّر السياسي المستقلّ عن المؤسسة، وعالم الرياضيات، والناقد الأدبي، والأكاديمي الذي انشغل في إصلاح المناهج والأساليب التعليميّة... وقد وضع مع محمود أمين العالم كتاباً مشتركاً يبقى من المراجع الأساسيّة لفهم عصر ومرحلة في تاريخ مصر، معقل النهضة الفكريّة والأدبية، هو «في الثقافة المصريّة» (1955).
ولعلّ كتابه «ذكريات من حياتي» أحد أجمل أعمال السيرة التي يتعايش فيها الخاص والعام بعفويّة وانسياب مشوّق. لكن الكتاب الذي يبقى في الذاكرة هو بلا شكّ «رسائل الحب والحزن والثورة» التي جمع فيها رسائله إلى زوجته حينما كان يقبع في سجون عبد الناصر. فحكاية أنيس مع السياسة والحزب الشيوعي والنضال وعبد الناصر هي من سمات هذا الجيل المؤسس الذي عايش مرحلة حاسمة في التاريخ العربي الحديث، وتعايش مع تناقضاته، وتنقل بين فصوله بثوابت لم تفارقه: هي الموقف من السلطة، ومن التغيير، من التقدّم مشروعاً أساسياً لا معنى من دونه لكل النضال والتفكير والنشر والإبداع. الرجل الذي دخل علم الرياضيات من باب الفلسفة، بقي «تقدمياً» حتى السنوات الأخيرة، منشغلاً بالبحث في آليات تطور المجتمع انطلاقاً من التعليم، هذا الأساس الذي توقف عنده كوندورسيه ومفكرو الثورة الفرنسيّة. وواصل دوره بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة، كونه منذ سنوات النضال الأولى تحاشى الوقوع في فخ التبعيّة والتقليد... ما جعل منه ماركسياً أصيلاً، لا ينظر إلى فكره بصفته ديناً غيبياً، بل مجرد أداة نظريّة ومنهجيّة قابلة للنقد والتطوير. يفقد اليسار المصري رمزاً آخر من رموز الزمن الجميل الذين نحتاج إليهم حين نلتفت إلى المستقبل.