لم يخبر أحداً بمرضه وراح يكتب «ليالي البانجو»

إنّه أحد أبناء «الجيل المظلوم» في الرواية والقصّة المصرية الذي وجد نفسه معلّقاً بين الستينيات والتسعينيات. لكنّ الكاتب الراحل الذي عمل على توظيف الخرافة والتراث الشعبي والفرعوني، احتل مكانة مميّزة على الساحة الأدبيّة. و... كان بين المشاركين في تظاهرات حركة «كفاية»

القاهرة ــــ محمد شعير
لا أخبار سارّة تأتي من مصر. الروائي يوسف أبو ريّة ضحية جديدة من ضحايا الإهمال والفساد. غيّبه الموت أمس بعد صراع قصير مع مرض السرطان. أبو رية الذي أكمل منذ أيام عامه الثالث والخمسين، كان لديه أمل بأن يعيش. قال لأصدقائه قبل يومين: «أنا متعاقد مع السماء على ضعف عمري وسأعيش». لكن يبدو أنّ يد القدر كانت أسرع من توقعات الجميع. اكتشف أبو رية إصابته بالمرض منذ أربعة شهور، لم يخبر أيّاً من أصدقائه، اتّجه إلى مكتبه وراح يكتب واحدةً من رواياته المؤجلة «ليالي البانجو». حتى عندما كان أصدقاؤه يسألونه عن فقدانه وزنه، كان يجيبهم: «ريجيم قاسٍ لأصبح أكثر رشاقة». وبدأ مرحلة علاجه، لكنّه سرعان ما أوقفه بعدما أنفق كل ما لديه. لم يلجأ إلى أحد، لكنّ الأصدقاء أطلقوا مبادرات لعلاجه. الدولة المصرية رفعت يدها عن علاج الجميع ليس فقط الأدباء. أمّا اتحاد الكتّاب فكانت لديه وديعة مالية تبرّع بها حاكم الشارقة (20 مليون جنيه)، لكنّ وزارة المال استولت عليها، ورفضت الإفراج عنها إلا بعد موافقة رئيس الوزراء. ورغم موافقة الأخير، ما زالت وزارة المال تحجب المال.
منذ ثلاثة أسابيع، أخبر الطبيب المعالج أبو رية بأنّه يجب إجراء عمليّة جراحية عاجلة لنقل كبد خلال شهرين على الأكثر في مصر أو خارجها. تكاليف الجراحة في مصر أقل وأرخص، لكنّ القانون لا يسمح بنقل الأعضاء إلا من أقارب الدرجة الأولى. وبمبادرات عائلية، تم تدبير المبلغ اللازم للجراحة، لكنّ التحاليل الطبية استبعدت تبرّع أبناء أشقائه. وكان الحل سفر أبو رية إلى إحدى الدول التي تتوافر لديها «بنوك أعضاء»، وكانت السعودية من الدول المرشّحة. لكنّ الإجراءات البيروقراطية أجّلت الأمر، ليرحل أبو ريّة فجر أمس قبل أن يرى روايته السابعة والأخيرة. سبقتها ستّ روايات هي: «عطش الصبار»، «تل الهوى»، «الجزيرة البيضاء»، «ليلة عرس»، «عاشق الحي»، «صمت الطواحين»، فضلاً عن سبع مجموعات قصصية: «الضحى العالي»، «عكس الريح»، «وش الفجر»، «ترنيمة للدار»، «طلل النار»، «شتاء العرى» وعدد كبير جداً من الأعمال التي كتبها خصيصاً للأطفال.
ولد أبو رية فى إحدى قرى محافظة الشرقية عام 1955، شمال القاهرة. كانت بداية الولع بالكتابة عندما اطّلع على مجلات الأطفال وبدأ الرسم في هذه المجلات. وعندما تعرّف إلى أعمال طه حسين في مكتبة المدرسة، سقط في «غواية اللغة والشعر» فقرّر الالتحاق بكليّة الإعلام. وكان مقرراً أن يعمل صحافياً، لكنّه اكتشف بعد فترة من التدريب في إحدى الصحف المصرية أنّه لا يصلح للصحافة فقرر التفرّغ للكتابة القصصية وحدها. وساعدته صداقته بأمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله على حسم أمره بالتفرغ للإبداع وحده.
ينتمي يوسف أبو رية ـــ حسب تصنيفات النقاد ـــ إلى جيل السبعينيات في الكتابة المصرية. وهو الجيل المظلوم الذي جاء بين جيل الستينيات الذي أحدثَ نقلةً في الكتابة الروائية والقصصية، وبين جيل التسعينيات صاحب المفترق الآخر. وقد اعتبر النقاد اجمالاً بأنّ كتّاب ما بعد حرب أكتوبر والانفتاح الاقتصادي هم امتداد طبيعي لجيل الستينيات على مستوى اللغة وتقنيات الكتابة. رغم هذا الموقع الصعب، استطاع أبو ريّة أن يجد لنفسه مكاناً متميزاً في الرواية العربية عبر سبع مجموعات قصصيّة وست روايات. إذ انشغل في معظم أعماله بتجسيد عالم القرية المصرية وتوظيف الحكاية الخرافية والأسطورة والتراث الشعبي والعربي والفرعوني أحياناً، ساعياً إلى مواجهة الحاضر بالماضي والحدسي بالحسي والواقعي بالخيالي والأسطوري. هذه الأسطورية والواقعية السحرية لم تكن تأثّراً بأدب أميركا اللاتينية الذي حظي بتلاميذ عديدين في الوطن العربي عندما بدأت ترجمته، لكن حسب تعبيرات أبو رية نفسه «لأنّني أنتمي إلى عالم يَخلط ما هو واقعي بما هو خرافي وسحري وأسطوري. كان النصّ مستجيباً للمصدر الأول في عقول البشر الذين قضيت بينهم طفولتي وصباي. إنّهم يؤمنون بتحليق النعوش، والسير على الماء، وأنّ القطار روح يسري بين جدران بيوتهم، ويؤمنون في «عمولات» المشعوذ والدجال، ويمرون أسفل بطن الجمل للقضاء على العقم. ويؤمنون بأنّ أرواح الأسلاف لا تغادر منازلهم. فجاء النص مستجيباً لهذا المزج بين ما هو خرافي وغيبي».
لم تكن قرية أبو رية مثل قرى مَن سبقوه. هي أقرب إلى المدينة الصغيرة، ومن هنا جاءت مفردات عالمه محاكاةً لحياة المدينة الريفية. العالم المقابل لعالم نجيب محفوظ. انتقى أبو رية عالمه ونقد سلبياته، وجعل من نصه «شهادةً متفردةً تعتمد في المقام الأوّل على صوت شخصية أشبه بالطيف، لكنّها قادرة على زعزعة أسس السكينة الريفية المزعومة والنغمة الحاكمة للسرد، نغمة المفارقة الساخرة والكوميديا المرحة...»، وفق ما جاء في بيان جائزة نجيب محفوظ التي منحته إياها الجامعة الأميركية في القاهرة عام 2005. أمس رحل أبو ريّة وقبله بيومين رحل محمود أمين العالم. وكنا نظن أنّ هذا العام سيكون أكثر رحمة بنا، لكن يبدو أن «بعض الظنّ «إثم»... فارفق بنا قليلاً أيّها الموت!

من «قتل» صاحب «تل الهوى»؟



هل مات يوسف أبو رية مقتولاً؟ السؤال مشروع. كان صاحب «تل الهوى» يحتاج إلى السفر. وقد طالب الأدباء على مدى الشهر الأخير الدولة بأن تفرج فقط عن الأموال التي تبرّع بها حاكم الشارقة لعلاج الأدباء المصريين. لكنّ وزير المال رفض، وتجاهل النداءات المتكررة. وفي هذا الإطار، رفع اتحاد الكتّاب المصريين دعوى قضائية على وزير المال يوسف بطرس غالي لاسترداد الأموال بعدما مات أبو رية بفعل الإهمال تماماً، كما رحل شاعر العامية المصري محمد الحسين قبل ثلاثة أسابيع بينما كان في إمكان أموال أمير الشارقة المصادرة إنقاذه.
هكذا تظل إشكالية «رعاية الأدباء» بعدما تنصّلت الدولة من علاج أي فرد من أفرادها. لم ترِد الحكومة أن ترحم ولا حتى أن تترك أموال المتبرعين بعلاج الأدباء أن تصل إليهم. منذ أكثر من عام، أصيب الكاتب والمترجم خليل كلفت بالمرض نفسه، وأُطلقت حملةٌ إعلاميةٌ لعلاجه. التقارير المصرية أكّدت أنّ حالته ميؤوس منها، لكنّ أصدقاء له في إيطاليا سفّروه إلى هناك وجرت له العملية الجراحية بنجاح، وعاد إلى مصر. الأمر ذاته ينطبق على الشاعر عبد الرحمن الأبنودي (الصورة) الذي تكفّل بعلاجه أحد الأمراء السعوديين، وبينما صدر قرار بعلاجه على نفقة الدولة، ولكنّه كان قراراً «للشو الإعلامي» فقط، لم يتمّ تنفيذه حتى الآن. بينما كانت رغبة الأبنودي أن يشعر بأنّ دولته اهتمّت به. يحكي سعيد الكفراوي قصة ذات دلالة في هذا الإطار رواها الأبنودي مرةً في أحد البرامج التلفزيونية بعد عودته من رحلة العلاج في ألمانيا. يومها، اتصل الأبنودي بمستشار الرئيس للشؤون السياسية زكريا عزمي ليسأله عن قرار العلاج على نفقة الدولة. قال الأبنودي: «أنا عبد الرحمن الأبنودي. فقال زكريا عزمي: ما اعرفش حد بالاسم دا. وأغلق الهاتف». الحكاية ذات دلالة، يربطها الكفرواي بقصائد الأبنودي الأخيرة ذات النفس السياسي المعارض بقوة. النظام لا يريد معارضين، لا يريد مثقّفين، فليموتوا جميعاً! لذا لن تستغرب أن يرحل أبو ريّة من دون أي التفاتة من جانب الدولة... هذا الكاتب الذي أسهم في تشكيل «رابطة المثقفين المستقلين» التي جمعت الكتّاب في مطلع الألفية الثالثة بمواجهة الهجمة التي قادها إسلاميّون ضد رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري حيدر حيدر... شارك أيضاً في تظاهرات حركة «كفاية» المعارضة لإعادة انتخاب الرئيس المصري محمد حسني مبارك.