بيار أبي صعبصالة «مسرح مونو» الصغرى في بيروت، مفتوحة هذه الأيّام لتجربة تستحق الاهتمام. نقول تجربة، لأن العرض الذي أخرجه هاغوب در غوغاسيان، انطلاقاً من اقتباس حرّ لنص جو قديح «مطار شارل ديغول» (هو ثمرة عمل جماعي بين المؤلف وممثلة العرض ومارك موراني)، يمتلك كل بذور العمل المسرحي ومواصفاته وعناصره، لكنّه لا يبدو مشغولاً باكتمال اللعبة واستوائها الدرامي والمشهدي. عناصر الفرجة قليلة ومتقشّفة: كرسي وسط الحيز المشهدي، ثم كرسي وطاولة بار في الحيّز الآخر في العمق... الفضاء شبه عار، تقولبه الإضاءة بمهارة، كي تخلو الحلبة لامرأة شابة بفستان الساتان الأحمر، والاسكربينة التي لا تنفك تخلع فردتيها لتلبسهما من جديد. إنّها الممثلة كارلا ديب التي تبدأ من تقديم نفسها... قبل أن تتقمّص دورها على غفلة من الجميع، فنحتار بين «أنا» الممثلة و«هي» الشخصيّة.
«إياباً من شارل ديغول» مونودراما قوامها نصّ متقطّع، بعيد عن أي خطيّة أو تطوّر درامي... وممثّلة، هنا بيننا، تعزف برهافة على مقامات مختلفة: البوح والتداعيات ـــ الغضب والانفعال ـــ محاولة التواصل مع الصوت، مع الرجل الغائب. التجربة غير بعيدة من «مسرح الغرفة»: جمهور موزّع على جهتين تبعاً لزاوية مستقيمة، لا يتخطّى عدده الثلاثين مشاهداً. هؤلاء ستخاطبهم كارلا ديب بالفرنسيّة، بضمير المتكلّم: «تريدون أسراراً؟ ليس عندي أسرار». قبل أن تصبح تلك «المرأة اللبنانيّة التي تريد أن تعيش حياتها». نفهم أنها في قاعة انتظار في المطار الباريسي... نفهم أن هناك زواجاً مدنيّاً كان ينبغي أن يتمّ. مع عمر الذي لا تنفك تتصل به وتترك رسائل صوتيّة على مسجّلته، من كابينة هاتف؟ إنّها أسيرة الانتظار، تستعيد مشاهد ومواقف من راهنها وماضيها، من تلك العلاقة المستحيلة. فجأةً في عمق المسرح تصبح في بار... ننتقل إلى ليل الجمّيزة الذي يبدو أن جو قديح بمهارة أنتروبولوجيّة («حياة الجغل صعبة»، «كافيه تياتر» من بطولته وتأليفه يقدّم في المسرح نفسه). أحياناً يأتي صوت الممثلة مسجلاً، لا نفهم تماماً لماذا. الهاتف عنصر مهمّ في العرض، يعيدنا إلى كوكتو في «الصوت البشريّ». لكن هاغوب در غوغاسيان يتوقّف عند أبواب تلك الحالة التي تعيشها امرأة مهجورة معلّقة بين مدينتين وأزمنة عدّة وطوائف وثقافات. تخرج الممثلة من اليسار، ثم تعود لتجلس إلى حافة ذلك الباب الذي يوحي ببيت بيروتي قديم. تحاصرها الظلمة، في ضوء النيون الأبيض تقرأ لنا مقطعاً إضافيّاً من صلاة الغائب. ثم ينتهي كلّ شيء!