تجارب حديثة ومعاصرة التقت في معرض أردني نوال العلي
تدخل إلى غاليري «نبض» في عمان وفي نيّتك إماطة اللثام عما يجمع الأعمال المختلفة المعروضة... إنّها «نافذة على الفنّ العربي المعاصر». تسأل: هل أطلّ المعرض على الفن العربي حقاً؟ تفتح النافذة وتحاول فهم الملابسات التي تحيط بانجذاب المشهد إلى الإغراق في التجريد. حالات قليلة تستثنيها وأنت تجوب أعمال 15 فناناً من سبعة بلدان عربية، حيث ما زال الـFigure أساسيّاً في العمل. امرأة التشكيلي حسين ماضي ضخمة تلفت النظر بفستانها الوردي وجلستها المثيرة. وجودها الوحيد الفاتن المرسوم بالإكريليك متسقٌ مع كلّ شيء وحيدٍ وفاتنٍ أيضاً على كانفاس اللوحة.
يغمرك الضوء أمام عمل رافع الناصري: أنت الآن في حضرة الإشراق الذي يبدو لك حفراً جوانياً، فتتذكّر أنّ التشكيلي العراقي (1940) يجيد الحفر والغرافيك أيضاً. يظهر اللون التركوازي كأنّ محبرة ورّاق انسكبت على ثوب حرير ذهبي، الحروف البعيدة في الخلف خافتة كأنّها بطانة خفيّة، لأنّها كتبت ثم أخفيت بالأسود المزرقّ الذي سال على الورق الممزوج بالإكريليك ومواد مختلفة. أمّا المصري أيمن السمري (1965)، فيستخدم البني بتدرجاته المختلفة ويمزج ورق الذهب مع الخشب العتيق المحفور في عمل كبير نسبياً منَحه حضوراً لونياً خاصاً، إذ كانت الألوان الترابية الخشبية أساساً لرسومات أو نقوش تحكي قصة الريف المصريالجزائري رشيد القريشي (1947) يعيد الاعتبار إلى الوشم ويقرنه بالحرف، في عمل ليتوغرافي. تعلو تلك الوشوم جملة لألبير كامو عن علاقته بالجزائر، فتخلق نوعاً من المفاجأة المحزنة. القريشي الذي ينتمي إلى عائلة صوفية يُشبع عمله بالرموز والإشارات من مثلثات وخطوط نجوم وأقمار. كلمة «حبّي» استُخدمت كزخرفة غطّت فراغات العمل. الجزائر بوشومها وفرنستها وصوفيتها موجودة بأكملها هنا.
«سيدة بالأحمر» بورتريه مهنا الدرة المولع برسم الوجه. يسمّونه رائد الفن التشكيلي الأردني (1938)، يد هذا الشيخ ما زالت تلتزم بالخطوط والشكل الواضح والمتزن، الإكريليك على لوح من خشب هو مادته. تبدو السيدة التي يظهر بروفايلها هنا كأنّها قادمة من عصر النهضة: وشاح أبيض موشّى بالليلكي على ثوب أحمر، تلمح طرف ذراعها العاري فقط. ثمة غشاوة مقصودة على ملامحها وثيابها، كأنّها امرأة قادمة من حلم.
«بحر» واحد أو وحيد، هو مفردة اللوحة في أعمال السوري زياد دلول. هذا البحر الضخم العارم الأزرق يظهر بريشة الفنان وألوانه الزيتية المستخدمة على نسيج من «الرق» النفيس شاحباً غارقاً في الصمت. يمكن كتابة شيء عن الصمت في لوحة دلول، إنّه مطبق وأبدي. الشعور بالصقيع أمر ممكن أيضاً، طقس اللوحة ومزاجها شتوي جداً.
الفلسطيني خليل رباح (1961) المعروف بتجهيزاته الفراغية المفاهيمية يعرض United States of Palestine Times وهي صحيفة تتصدّر صفحتها الأولى صورة تجهيز لرباح بعنوان «تطعيم»: هنا، تظهر أربع أشجار من الزيتون ترتفع على سطح عشبي شاسع حُدِّدت أرضها الخاصة بأكوام من التراب، بحيث تبدو ناتئة عن كل ما حولها. الصحيفة وكل أعمال رباح إجمالاً تعبير عن آثار الاحتلال على المجتمع والاقتصاد والهوية الفلسطينية.
الخزّاف الوحيد المشارك هو محمود طه (1942). أعماله ما زالت تقليدية، فيها الكثير من الصنعة والتمكّن. يوصف بالرائد في فنّه، وهناك من يرى تجديداً في معالجاته التشكيلية. الاكتفاء بوصف أعماله قد يثبت العكس. الشكل الذي يقدمه طه هو الدائرة وألواناً بديعة حقاً، كأنّها صلصال لم يمس. البسملة والقرآنيات ضرورة في أعماله.
التشكيلي الأردني خالد خريس (1955) موجود بخطّه التعبيري يقدّم نسيجاً مفككاً للون واحد. هو الآن في مرحلة الأصفر، ترى لونه الإكريليكي ذائباً كأنّه عقد انفرط على الكانفاس. يسمّي لونه هذا «نوستالجيا». أمّا «المدينة الضائعة»، فهي للفلسطيني تيسير بركات (1959): خمسة أعمال تعرض له هنا، الخامات الطبيعية هي مادته، برادة حديد على خشب للأعمال التركيبية، والأصباغ مع الحبر لأعمال تصوّر أطيافاً وأشباحاً ومدناً معذبة. امرأتان تشاركان في المعرض الأردنية وجدان علي والفلسطينية جمانة الحسيني. الحسيني (1932) التي تعيش في باريس قدمت «حفريات في ذكريات الطفولة». ربما لذلك تحفر باتّجاه القدس. الفنّ هو نفقها الذهني إلى المدينة المفقودة. في بداياتها، كانت الحسيني ترسم البيوت والبشر، وها هي ترسم ما لا تمكن رؤيته. تستخدم ورقاً لتضيف إليه مواد مختلفة تمزجها. الأبيض لون أثير تُظهر جماله بأن تفرد له المساحة، فيما تقلّل من حيّز اللون الثقيل باختزاله في وسط الورقة، تشعر في أعمالها بأنّ المركزية تكمن في الهامش، في الخفاء... في ما لا تمكن رؤيته. أما وجدان علي، فتمتمسكت بالحرف القلبي المكتوب بالخط الديواني وبورقة «الكرمة» والألوان الفاقعة.
أما العراقي هيمت محمد علي (1960) فتلميذ شاكر حسن آل سعيد. وإذا عرفتَ أنّه تلقّى علوماً في الرسم في اليابان، فلن تستغرب من رؤية لوحة تبدو كأنها حرير مطبوع. لوحاته مغرقة في التجريدية. بينما لوحات الأردني نبيل شحادة (1949)، مجرد ضربات عشوائية مرتجلة تستجدي صدفة جمالية لا تتحقّق، يبررها فنان وناقد بأنّها «انفعالية تلقائية».
وأخيراً، نحن في الطريق إلى مستغانم، مدينة الجزائري عبد الله بن عنتر (1930). أهلاً بالشاعرية وبأطياف نساء مجلببات بالأحمر وبيوت غامضة أسفل السفح. اللوحة الزيتية اسمها «الغرقى»، والريشة ظهرت كأنّها القشة التي ستنجيهم من الموت في الذاكرة.
ربما هذه هي حال الفنّ الذي شاهدناه برمّته. إذ إنّ غالبية الفنانين المشاركين يعيشون في المنافي. تشعر بأنك مشيت في سراب بصري وتعثّرت بكثير من المفقودات: بشر، أماكن طفولة، ذوات. الفنانون يتركونك واجماً أمام النافذة. أنت تسألهم عن الرسم إذ يعيد إنتاج الفقدان... وهم يتابعون.


حتى 11 شباط (فبراير) الحالي ــ غاليري «نبض» (عمان) http://www.nabadartgallery.com