ارتاد مجاهل السرد العربي وارتبط اسمه بالمقاماتالرباط ــــ ياسين عدنان
ما الذي يشعر به باحث مغربي شاب يُحضِّر خلال الستينيات الصاخبة بهدوء معرفي مثير للأعصاب، أطروحةً عن فرانسوا مورياك؟ لنتخيّل مغرب تلك الأيام: عبد الكبير الخطيبي وطلبته في جامعة محمد الخامس على رأسهم تلميذه المدلل الطاهر بنجلون يبشّرون برواية مغاربية لها شخصيتها المستقلة. الكل يردّد أفكار فرانز فانون عن الاغتراب والوعي السيئ وتناقض الثقافات. والنقّاد يتحدّثون لغة جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان. وباحث شاب من أبناء أحد دروب الرباط العتيقة يشتغل على مورياك من دون أدنى إحساس بالذنبلم يكن هذا الطالب سوى عبد الفتاح كيليطو (1945). أمّا إحساسه تلك الأيام فيصعب تحديده. لكنّ الواضح أنّ الباحث المغربي الشاب سيتخلّى عن مورياك، ليحسم أمره مقرراً العودة إلى الذات: ذاتنا الثقافية التي صارت موضوعاً لأبحاثه النقدية. لكن عوض أن يشتغل على الرواية المغاربية المكتوبة بالفرنسية، قرّر أن يضرب بعيداً في أرض السرد: «فكرتُ بسذاجة بأنّ دراسة كتَّابنا العرب الكبار ستزودني بمفتاح هويتنا».
لكنّ ولوج غابة السرد العربي القديم يحتاج إلى مدخل. وكيليطو عثر منذ البداية على المدخل الملائم. إنّها الغرابة. الغرابة التي تقود قارئ الأدب إلى المزيد من الألفة مع تراثنا السردي. هكذا جاء كتابه الأول «الأدب والغرابة» (دار الطليعة ـــ 1982) ليؤكد أنّ «الغرابة لا تبعدنا عن همومنا ومشاكلنا الحالية، بل هي طريقنا إلى الألفة الحقة». ثم اشتغل في «العين والإبرة» على «ألف ليلة وليلة». هذا النصّ الذي ظل مقصياً من «المؤسسة الثقافية والنقدية العربية الرسمية». وبعد سفره إلى الغرب، تحوّل مرجعاً لدراسة الثقافة والأدب العربيّين. غربة النصوص، وتنقلها بين الأزمنة والأمكنة، هو السبيل إلى الألفة الحقة، هذا هو الدرس الأول الذي تعلّمه كيليطو.
ثم تواصلت المغامرة. أستاذ الأدب الفرنسي الحديث في جامعة محمد الخامس الذي توقف عن متابعة جديد الأدب الفرنسي، اختار طريقه بشكل حاسم. بعد «ألف ليلة وليلة»، اتجه إلى المقامات في كتابه «المقامات: السرد والأنساق الثقافية». الحريري الذي كان في مركز الثقافة العربية الكلاسيكية، أقصاه الغرب وفضل على مقاماته منمنمات الواسطي البسيطة والساذجة المرافقة لها. هنا، مرّة أخرى سيتدخّل كيليطو ليعيد الاعتبار لفنّ المقامة، وللحريري الذي خصّص له كتابه «الغائب». وتواصلت الإصدارات من «الكتابة والتناسخ» (1985)، «خصومة الصور» (1995)، «الحكاية والتأويل» (1998)، «حصان نيتشه» (2001) إلى «من شرفة ابن رشد» (2009).
ظل كيليطو ينتقل وسط أحراج السرد العربي بين الحريري والهمذاني والجرجاني والمعري والآمدي وأبي حيان التوحيدي وابن رشد وابن منظور. هدفه توسيع مفهوم الحكاية ليشمل الأشكال السردية التي لم يكن السابقون يعترفون بأدبيتها. لذا تراه يكتب عن الحكاية. عن الخبر والمثل والنادرة. عن أصل اللغة. عن صورة النبي. عن عصا موسى. عن القرد الخطاط والكتاب الغريق وعن الشيطان في الجسد. يكتب عن ترحيل جثمان ابن رشد ومنامات أبي العلاء. يقارب الموضوعات الغريبة بألفة، ولغة لا يتقنها غيره. أسلوبه مشوّق. ملاحظاته مبتكرة، ولغته مقتصدة موجزة. بإيقاع خاص. حينما تترجم كتابته بحَرفية إلى العربية ـــــ وخصوصاً من دون أدوات ربط ـــــ تصير كالنص التلغرافي. لكن الأهم هو تلك القدرة الخارقة على نسج التآويل.
إلى جانب كفاءته في التحليل النصي والبحث النقدي والتاريخ الثقافي، ما يصنع فرادته هو تحكّمه بأدواته بحيث لا نسمع في كتاباته ذلك الضجيج المنهجي المزعج في مدونة النقد العربي الحديث. ثم هناك الذكاء الخاص الذي يؤول به أصداء المعاني التي تستثيره في نصوصنا القديمة. هكذا صار كيليطو اليوم مثل الساحر الخبير في فكّ الطلاسم. صحيح أنّ الرجل مسلح بأحدث المناهج، إلا أنه يتخفف من كل الأدوات الإجرائية التي يشتغل بها زملاؤه. هو مقتنع بمقولة سيوران: «قد يستفيد الشاعر من قراءة كتاب في علم النبات أكثر من استفادته من قراءة ديوان شعر». ويوضح علاقته بالمناهج الأدبية: «يبدو لي أن الناقد الأدبي، المحلل للنصوص الأدبية، يشبه إلى حد كبير المتعدد الحرف. لذلك ترى المشتغل بالأدب يستعير أدواته من اللسانيات وعلم الاجتماع وعلم النفس...».
لكن، لماذا اختار مهنة محلّل النصوص الأدبية؟ كان يمكنه استثمار مواهبه في الرواية مثلاً؟: «أدركتُ دوماً بذهول، أنني لا أملك أفكاراً. أو لا أملك أفكاراً أصيلة وشخصية». لهذا فضَّل قراءة أعمال الآخرين. إنه مجرد قارئ ومُحلل نصوص جعلنا نكتشف أن القراءة عندما تجد من يمارسها بحرية وذكاء تصير أقوى من الكتابة.
لكن كيف يقرأ كيليطو؟ مثل طفل. يقول: «الطفل هو القارئ النموذجي. فيما يعتبر الكبار القراءة وسيلة، يقرأ الطفل من أجل الاسترخاء و«قتل الوقت» وإغناء قاموسه. الطفل يمارس قراءة صافية ولا يبحث عن «زبدة المخ». ما يهمه هو السطح الذي يتزحلق عليه».
ماذا عن اللغة؟ سيستعير الجاحظ ليتخلص منا: «إذا التقت لغتان في اللسان الواحد، أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبها». هكذا إذاً يعيش كيليطو. معذباً بين لغتين. و«معذباً بسبب الإحساس بالذنب»، لأنّه لن يتمكن أبداً من هذين اللسانين. مع ذلك، عرف دائماً كيف يحتال على عذابه. ألم يدافع في «حصان نيتشه» عن العلاقة الوطيدة القائمة بين الأدب والإحساس بالذنب؟

محاضرة بيروت: عن التفاعل بين المؤلف والتراثنموذج آخر تناوله كيليطو لدى الكتّاب العرب الكلاسيكيين وهو ما يشير إليه الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» من انزعاج مرتبط بالكلام والكتابة قد يبلغ حدّ الذعر من عدو يقف بالمرصاد. هذا العدو الذي يشير إليه الجاحظ ليس إلا القارئ. وبمعزل عن الأخير، هناك مشكلتان تتهدّدان الكاتب أيضاً هما: الغرور والغطرسة من جهة، والعجز عن الكلام من جهة أخرى. ويعتبر الجاحظ أيضاً أنّ الكاتب يمكن أن يكون عدو نفسه. ويرى كيليطو أنّ الحذر من النفس قد يفسّر عادات أدبيّة وإنشائيّة مذهلة، كالانتحال مثلاً. وكان الكاتب ينسب عمله لشخص آخر لأسباب دينية، سياسيّة أو ربما لمحاربة الغرور. ولا يرى الناقد المغربي في وفرة الاقتباسات والاستشهادات في النصوص القديمة ضعفاً، إنّما يستشهد بما قاله ابن عبد ربّه: «اختيار الكلام أصعب من تأليفه». ويشير كيليطو إلى ظاهرة لدى الكتّاب العرب هي إعلانهم في مقدماتهم أنّهم كتبوا هذا الكتاب تلبية لطلب من جهة لا يذكرونها. ويجد كيليطو أنّه يصعب إعطاء سبب واضح لهذا النموذج.
منهم من فعل ذلك ليلقى الدعم المالي أو الحماية. الزمخشري مثلاً يقول إنّ السبب الحقيقي الذي كان وراء تأليفه 50 مقامة أنّ كائناً خارقاً طلب منه تأليفها! كذلك نجد أنّ العصور السالفة لم تكن بمنأى عن الشكوى الكلاسيكيّة: في ما مضى كان كل شيء أفضل. فترى ابن منظور يتذمّر من ضعف اللغة العربيّة في عصره. ويطمح هؤلاء الكتّاب إلى البروز كمنقذين. هكذا أنقذ ابن منظور العربيّة بتأليفه قاموسه «لسان العرب».