سناء الخوريقد تكون سيرة جبران خليل جبران، تلك التي يلقّنوننا إياها منذ الصفوف الابتدائيّة، ناقصة أو مغلوطة. هذا على الأقل ما يقوله بشكل من الأشكال الكاتب والباحث جان دايه في كتابه «لكم جبرانكم ولي جبراني ــــ مع خمسين نصّاً مجهولاً لجبران» (منشورات مجلّة قبّ الياس). يقترب المؤلّف هنا من مناطق شائكة في حياة صاحب «النبي» وشخصيته وإنتاجه الأدبي ومعتقداته السياسيّة. العنوان مقتبس طبعاً من عبارة شهيرة لجبران «لكم لبنانكم ولي لبناني». اقتباس ليس بريئاً، كما نلحظ في مقدّمة الكتاب. يكتب دايه أن «الكتاب بفصوله الـ13 ووثائقه الجبرانيّة، يستهدف تقديم جبران كما كان، وليس كما أراده بعضهم أن يكون». هكذا، يحيلنا الباحث إلى فروقات دقيقة بين جبران الأسطورة وجبران الإنسان والكاتب والفنّان، لنكتشف أنّ بعض الباحثين في السيرة الجبرانيّة ــــ لا كلّهم كما يشدّد المؤلّف ــــ غلّبوا معايير غير علميّة على معايير الواقع والتاريخ في دراسة نصوص عبر صاحبها بين الاتجاهات والمدارس والتأثرات الفكريّة المختلفة. ينطلق دايه في بحثه من حياة والدة جبران كاملة رحمة، فينسف المعتقد السائد بأنّها طلّقت زوجها الثاني يوسف جعجع بسبب عجز جنسي، مفنّداً محضر طلاقها في فصل كامل. ثمّ يغوص الباحث في شرح مغالطات تاريخيّة مدعّمةً بالوثائق، مبيّناً الفرق بين تاريخ انتساب «جبرانهم» إلى «معهد الحكمة» عام 1897، وتاريخ انتساب جبران الحقيقي إلى المعهد عام 1898، وكذلك بالنسبة لتاريخ تأسيسه «الرابطة القلميّة» في نيويورك عام 1920 لا عام 1916 كما يؤكّد دايه. تتحوّل قراءة الكتاب إلى متعة حقيقيّة حين ندخل في تفاصيل ملامح «الأسطورة» المطبوعة في ذاكرتنا الجماعيّة. قد لا نكون توقّفنا قبلاً عند السنة التي دخل فيها جبران «معهد الحكمة»، إلا أننا نعرف جميعاً هالة جبران الحزين، الرصين، المقطّب الجبين. وها هو جان دايه يقلب الصورة، رأساً على عقب، مؤكداً أنّ جبران «شرّيب كاس، فكه، وساخر...». ويضيف أنّه لم يكن فيلسوفاً منزوياً يعيش في برجه العاجي، بل خطيباً «وصلت هوايته في الخطابة إلى فنّ الاحتراف». هذه المعلومات استغرقت دايه سنوات من البحث والتدقيق والتمحيص بين متحف جبران في بشرّي و«قسم الشرق الأدنى في مكتبة الكونغرس»، وبشكل رئيسي مكتبة «يافث» التذكارية التابعة للجامعة الأميركيّة في بيروت. وهو يدعّم نصّه بحواشٍ ومراجع مكثّفة، إضافةً إلى صور لصفحات الجرائد التي كتب فيها جبران.
يحيلنا الباحث في الفصل التاسع من كتابه إلى قضيّة جدليّة أخرى في كتابات جبران المنشورة وتلك التي نتعلّمها في الكتب المدرسية، وهي «لبننة المصطلح السوري». يقارن دايه بين خطاب لجبران في «مرآة الغرب» في 13 آذار (مارس) 1911، ورسائله المنشورة، مبيناً أنّ جبران استخدم مصطلح «سورية» للدلالة على كيان سياسي قائم يشمل لبنان والشام والأردن وفلسطين والعراق، «وهو المصطلح نفسه الذي استخدمه كلّ روّاد النهضة»، فيما حذفه بعض الباحثين اللبنانيين ووضعوا كلمة «لبنان وسوريا» عوضاً عنه.
ولعلّ الإضافة الأثمن التي يقدّمها جان دايه في كتابه، إخراجه إلى الضوء خمسين نصّاً مجهولاً لجبران، جمعها من مراسلاته ومقالاته المنشورة في صحف لبنانيّة ومهجريّة كـ«المهاجر» و«السائح» و«الهلال» و«الفنون». هكذا نكتشف أنّ الأديب (والرسّام) اللبناني الشهير، كان صحافياً متمرّساً ولم يمرّ على المهنة مرور الكرام.