محمود عبد الغنيسؤال كبير يشغل المهتمين بنظريّات الترجمة وإبستمولوجياتها: هل الترجمة ممكنة أم مستحيلة؟ بل هناك مَن رأى أنّ الحديث عن نظريّة للترجمة مجرد مكر ويوتوبيا. في «عن الترجمة» («الدار العربية للعلوم ــــ ناشرون»/ بيروت، و«منشورات الاختلاف»/ الجزائر ــــ ترجمة حسين خمري) يركّز الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور على القضية نفسها: إمكان/ استحالة الترجمة باعتبارها قضية مثّلت «تحدياً» في مختلف العصور. وقد عبّر عبد السلام بنعبد العالي ببلاغة عن هذه الإشكاليّة، حين قال: «النص لا يحيا إلّا لأنّه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة في الوقت نفسه». منذ البداية، يستعرض ريكور الصعوبات المرتبطة بالترجمة، معتبراً أنّها تمثّل رهاناً صعباً. المترجم يتحمّل قسطاً في رفع التحدي، واللغة تتحمل الأقساط الباقية. وأحياناً ترفض اللغة التعاون مع المترجم. مَن يستطيع مثلاً ترجمة «أما بعد» إلى الفرنسية؟ بل من يستطيع ترجمة «أما بعد» إلى العربية بالذات؟ يتساءل عبد الفتاح كيليطو. هنا يتجلّى الامتحان الصعب الذي يجتازه المترجم.
لتوضيح هذه المحنة، اقترح ريكور مقارنة «مهمة المترجم» التي تكلّم عنها الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، بالمعنى المزدوج الذي أعطاه فرويد لكلمة «عمل»، عندما تكلّم عن «عمل الذاكرة» و«عمل الحداد»: خلال الترجمة، نعمد أيضاً إلى نوع من الإنقاذ والتعويض عن الخسارة. لهذا فالترجمة أصعب ممارسة لسانيّة. أولاً لأنّها تطرح مباشرةً علاقة الذاتي بالأجنبي... وثانياً لأنّها تنطلق من الفهم. و«الفهم هو الترجمة» وفق الكاتب جورج ستاينر. ويطرح الفهم في المقام الأول كلّما شرعنا في الترجمة، ما دام البشر يتكلمون لغات عديدة.
ورغم هذا الوجه الإيجابي للتعدد اللغوي (خمسة آلاف أو ستة آلاف لغة) الذي هو وراء «سعادة المترجم»، فإنّ ريكور يعتبره أمراً مضراً. بل إنّ ستاينر يصفه بـ«التبذير الكارثي» الذي لن يكون في صالح الشرط البشري العادي. غير أنّ وجهة التراجمة تلك، ليست وحدها الموجودة في هذا المقام. قبلهم، أثبت الرحّالة والتجّار والعديد من مزدوجي اللغة، أنّ عملية نقل رسالة لسانية من لغة إلى أخرى ممكنة، بل أيضاً تعلّم لغات أخرى.
لكنّ ريكور يفضّل الحديث عن تنوّع اللغات الذي يعبّر عن تنافر جذري، تكاد تبدو معه الترجمة مستحيلة نظرياً... لأنّ اللغات قابلة للترجمة في ما بينها قبلياً بفضل وجود ما سمّاه «الذخيرة المشتركة». وهذا هو الطريق المؤدي إلى اللغة الأصلية (الأولى). أما إذا كانت تعددية اللغات جذرية، فالترجمة تكون متعذّرة.
ويتوقّف الفيلسوف الفرنسي الراحل في «عن الترجمة» عند مفهومي الأمانة والخيانة، ليطرحهما بديلاً لمسألتي «قابل للترجمة» و«غير قابل للترجمة». وأسباب هذا المأزق الجدلي حيث يتصادم النقيضان: إمكان الترجمة واستحالتها، تعود إلى فرع من فروع الأتنو ــــ لغوية التي تؤكد على الطابع غير القابل للتراكب والتطابق لمختلف التقطيعات التي تتكئ عليها الأنظمة اللغوية المتعددة. هكذا، يستنتج ريكور أنّ «اللافهم حقيقة، وأنّ الترجمة نظرياً مستحيلة، وأن الأشخاص المزدوجي اللغة لا يمكن إلا أن يكونوا مصابين بالعصاب».