يستعير الفنان الشاب بطلته من الشرائط المصوّرة، يتركها تتحرّك في عالم مركّب بإتقان مسرحي، متعدد المصادر الفنيّة. Threnody امرأة تتأرجح بجسدها العاري في الفراغ الأسود
سناء الخوري
أنشودة حداد، لحنٌ حزين، قصيدة رثاء... قد تسعفنا هذه العبارات لترجمة عنوان المعرض الفوتوغرافي الأوّل للمصوّر الشاب كريم جريج (1978). 11 صورة تحت عنوان Threnody، بلغت حلّتها النهائية بعد جهد طويل على المونتاج والضوء، في عمل يعبق بالحداد. الجسد المرمي في السواد، أراده المصوّر وقفة وجوديّة أبعد من الحداد وسؤالاً عن كينونة الإنسان المتروك هنا بين صنوي الحياة والموت. الأعمال (23 ميغابيكسل) التقطها كريم بكاميرا ديجيتال.
الجسد شبه العاري يتدلّى أمامنا، يتخذ تعرجات مختلفة. تلك الفتاة المحاطة بالشراشف البيضاء والسوداء تتثاءب، ترقص، تتقيأ، تتشبث بحبال غير مرئيّة، تغفو، ترتاح، تثور، تولد من جديد، تتمدّد على نوتات موسيقيّة حزينة، تتأرجح في الهواء. ما هي هذه المخلوقة؟ أهي المرأة أم روحها؟ هي عارضة أزياء فقط أم أوفيليا معاصرة انتحرت في مياه ضحلة قاتمة؟ Threnody قد تكون بطلة قصة مصوّرة ظهرت للمرّة الأولى في ألبوم صادر عن مارفل كوميكس في الولايات المتحدة (١٩٩٣)، تجمع بين الرمزيّة والخرافة العلميّة. امرأة غريبة كانت تحوم في شوارع لوس أنجليس، كائن متحوّل قادر على التقاط الطاقات التي يطلقها الموت. وها قد تحوّلت إلى ملاك الحداد والرغبة الدفينة، من خلال عدسة كريم جريج. قبل أن يصل إلى العرض، عبَر مشروع «ترينودي» مراحل عدّة، كما يُخبرنا الفنان. في البداية كانت الرؤيا، التي تشبه إلى حدّ بعيد الصورة المعروضة تحت عنوان Mono. في هذه الصورة تتمدّد بهلوانتنا على ظهرها بعينيها المغمضتين وشعرها المنسدل على المساحة السوداء. تنسلّ الشراشف البيضاء والسوداء من يديها، وتسبح في رحم حدوده اللانهائية.
هكذا تخيّلها للمرّة الأولى. في مرحلة ثانية، تحوّلت الرؤيا إلى مسودات، اتخذت تعرجات الجسد وانحناءات الشراشف فيها مقاييس محدّدة. الصور التي نراها في غاليري The Running Horses هي النسخ الفوتوغرافيّة من تلك المسودات، وقد كان جهد الوصول إليها مضاعفاً، لأنّ كريم لم يرد أن يبتعد عن الشكل الذي رسمه في مخيلته. المعرض إذاً، خطّة رسمت بتمعّن، بعيداً عن أيّ ارتجال، رغم عفويّة وانسيابيّة الأقمشة وجسد البطلة الذي تستره.
في مرحلة التنفيذ، دهن كريم صالون منزله بالأسود. صوّر العارضة على حدة ثمّ صوّر الشراشف. انحناءة الجسد، أقمشة الموسلين العنيدة وحركة الأطراف التي يعشقها مصورنا قبل كلّ شيء آخر، كانت تحت رحمة العدسة ومخيّلتها. كانت في ذهنه لوحات عصر النهضة المتأخرة في إيطاليا، وهو يطلب من العارضة أن تحني يدها بهذا الاتجاه، أو أن ترفعها قليلاً بشيء من التصنّع. هكذا يسير كريم على خطى رسّامي «المانييريزمو» (النزعة المتكلّفة) من أتباع روسو فيورينتينو (1494 ـــــ 1540) ورسامي «مدرسة فونتان بلو» الذين استوحوا من ميكلانجلو ورافايل أبعاد الفضاء اللامتناهي. رسم هؤلاء الجسد على شكل حرف S، واعتمدوا حركة الأطراف المفتعلة الراقية محوراً للوحاتهم.
كريم الذي أمضى نصف عمره في مونتريال، لم يدخل معهداً ولا جامعةً. المصوّر اللبناني المنبهر بالشراشف المتطايرة في لوحات الأسلوبيين الطليان، وجد نفسه أمام تحدّي جعل الشراشف التي صوّرها تقارب الدرجة نفسها من التناغم مع حركة الجسد. بعد التصوير المتقطّع، حان وقت الكولاج. تقنيّة مونتاج صعبة، وحرفيّة في اختيار تدرّجات الضوء، ثمّ طباعة على طريقة «الجيكليه» لكي لا يتماهى أسود الموسلين مع الخلفيّة القاتمة انتهت بلوحاته الفوتوغرافيّة المعروضة.
يعمل كريم في مجال تصوير الموضة، وقد استوحى تقنيته الغريبة هذه من معلمين في مجال مهنته. التقنية الصعبة من سولفي سوندسبو، ووضعيات الجسد من غريغ كاديل. الحزن المخيّم يعود إلى كون العمل بمجمله تحيّة إلى روح أمّه الراحلة. كانت هي أوّل من يهديه كاميرا، حين قرر احتراف التصوير. هذا قد يفسّر البعد الروحاني الذي يرشح من الصور. كريم من جهته يقول إنّه يرسم مشروعه هذا على حدود أخرى، فيها الشعر، وجسد المرأة، والجمال الكامن في البحث عن الكمال. وأبعد من مشروعه الفنّي، أراد كريم أن يتحدّى الموت. لهذا واظب على اختراع صور لمخلوقات خالدة.


حتّى 30 الحالي ـــ غاليري The Running Horses (المدوّر، بيروت) ــــ للاستعلام : 03/710225