رحلة بهمان غوبادي من اليأس إلى المنفىعثمان تزغارت
خلال «مهرجان كان» الأخير، ورغم الحفاوة التي حظي بها فيلمه «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية»، بدا السينمائي الإيراني بهمان غوبادي يائساً. حتّى خبر إطلاق سراح رفيقة دربه الصحافية الإيرانية ــــ الأميركية روكسانا صابري (بعدما حكم عليها بالسجن سبع سنوات، بتهمة التجسّس)، لم يخفّف من حزنه. وتساءل كثيرون: هل السينمائي الذي أمامنا، هو نفسه الشاب البشوش الذي أبهر الأوساط السينمائية العالمية بباكورته «وقت لانتشاء الخيول» (الكاميرا الذهبية في «كان» ــــ 2000)، فصُنّف ضمن أبرز أقطاب السينما الإيرانية الجديدة؟ سينما جيل لم يشهد ميلاد الثورة الإسلامية، ولم يعش، كالجيل الذي سبقه، جذوتها وأحلامها، بل نشأ في ظل القبضة الحديدية لنظام الملالي المتشدد. ما جعل هذا الجيل يطرح جانباً اللغة الشاعرية (عباس كياروستامي ــــ راجع المقال صفحة 17) وأسلوب التورية (محسن مخملباف)، لحساب خطاب ناري ومشاكس يرصد غضب الشباب الإيراني وتوقه إلى الحرية.
لم تقارب السينما الإيرانية العالم السفلي، ولم تغص في عوالمه السرية التي خرجت من قمقمها انتفاضة الشباب في شوارع طهران أخيراً، كما فعل غوبادي في «القطط الفارسية». وهو هنا يسير على خطى سينمائي آخر هو جعفر بناهي الذي سلك الدروب الوعرة ذاتها في «الذهب والدم» (2003). إذ صوّر الحياة السرية للشباب الإيراني التي تمنحه هامشاً، محدوداً ومحفوفاً بالمخاطر، من الحرية. في ذلك الشريط، تنبأ بناهي بأنّ «ثورة داخل الثورة» آتية لا محالة، بعدما طرح جانباً اللغة الشاعرية التي طبعت أفلام بداياته: «البالون الأبيض» (الكاميرا الذهبية في «كان» ــــ 1995)، و«الدائرة» («الأسد الذهبي» في «البندقية» ــــ 2000)، لحساب لغة فجة سلّطت نظرة قاسية على ازدواجية الشباب الإيراني الممزق بين عالمين أو نمطي حياة: حياة علنية متقشفة مجاراةً لحكم رجال الدين، وحياة سرية تمنحه هامشاً من الحرية والانعتاق.
رغم أنّ سبع سنوات تفصل بين «الذهب والدم» و«القطط الفارسية»، إلا أنّ بهمان غوبادي يعترف بأن نقاطاً عدّة تجمع بين التجربتين: «أنا وبناهي سليلي الغضب والقلق الوجودي نفسه. كلانا يغرف من عوالم شبابية إيرانية، والمشاغل والقضايا المسكوت عنها. هذه العوالم يمكن وصفها بأنها أشبه بمولود هجين، يحمل شيئاً من تشيخوف (روح التراجيديا) وشيئاً من ألبير كامو (التمرد الوجودي)...».
في «الذهب والدم»، سلّط بناهي نظرته إلى العالم السفلي في إيران، عبر جولة ليلية لبائع بيتزا يجوب طهران على متن دراجته النارية. أما غوبادي، فرافق بكاميراه في «القطط الفارسية» رحلة تيه شاب وشابّة إيرانيّين خرجا للتو من السجن، ويسعيان لتأسيس فرقة روك اند رول! أمام جمهور الكروازيت الذي أبهره الفيلم، في أيّار/ مايو الماضي، روى عشقان خوشانجاد أحد بطلي الفيلم أنّه تعرّض فعلاً للسجن بتهمة ممارسة موسيقى الروك من دون ترخيص...
للغوص في العوالم السرية للشباب الإيراني، انطلق غوبادي وفريقه فيلمه، على غرار بطل «الذهب والدم»، على متن دراجة نارية كانت كل عتادهم الفني، إلى جانب كاميرا رقمية سلطا عبرها نظرة غير مسبوقة في جرأتها وقدرتها على التجديد، للتحايل على الرقابة الرسمية التي رفضت منح تصريح بالتصوير لغوبادي، مذ أثار فيلمه «انتصاف القمر» حفيظة المؤسسة الدينية (راجع الكادر أدناه). ورغم أنّ الفيلم صُوّر سراً وصادفته عقبات، إلا أنه أبهر النقاد بخطابه البصري الذي أضاء على كل ما هو مسكوت عنه في إيران، دينياً وسياسياً واجتماعياًاستعار الشريط عنوانه «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية»، من أغنية لفرقة راب محلية تسخر من قرار المؤسسة الدينية بمنع القطط والكلاب من التجوّل في إيران، بحجة أنها «حيوانات غير طاهرة». لكن الجميع ــــ تضيف الأغنية ــــ يملك قططاً فارسية في بيته، لأنها جزء من تراث فارسي عمره 3 آلاف سنة. وتلك القطط، وإن كانت ممنوعة من الخروج، إلا أنها تظل متوثبة، بانتظار اللحظة المواتية للخروج إلى دائرة النور.
بذلك، حمل الفيلم ما يشبه النبوءة التي بشرت باندلاع ثورة «القطط الفارسية» الشابة. لكن غوبادي الذي تملّكه التشاؤم، لم يكن يتوقع أن النبوءة ستتحقق بهذه السرعة. حين شرع في تصوير العمل، كانت رفيقة دربه روكسانا صابري التي اشتركت معه في كتابة قصة الفيلم، تقبع في السجن. وكان غوبادي ممنوعاً من التصوير، منذ 2007. وهو كان يدرك حين صوّر هذا العمل أن طريق العودة إلى طهران أصبح محفوفاً بالمخاطر. لذا أعلن خلال «كان»: «أنا يائس ومحبط، ولن أعود إلى إيران، لأن ذلك معناه أنني لن أستطيع تقديم أي عمل سينمائي بعد اليوم». هكذا قرّر صاحب «أغنيات من بلد أمي» المضي إلى المنفى الألماني، حيث حصل على التمويل لتحقيق فيلم بعنوان «خمسون ثانية في حياتي» عن اللحظات الأخيرة في حياة محكوم بالإعدام يُقاد إلى حبل المشنقة في إحدى ساحات طهران.
حركة الاحتجاج العارمة التي شهدتها طهران بعد الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، جعلت غوبادي يؤجل الانطلاق في مشروعه الجديد، مؤثراً العودة إلى بلاده. لكنّ السينمائي اعتُقل بعد وصوله إلى مسقط رأسه في عبدان، في كردستان الإيرانية، وأُبعد إلى... المنفى الذي أصبح قسريّاً هذه المرة.