المسرحي الألماني الذي عارض فقه ستانيسلافسكي، التجأ إلى الشعر ليعيد كتابة العالم. قصائده ذات نكهة إنسانية تأخذنا إلى جوار نيرودا ولوركا وناظم حكمت. «دار الجمل» أعادت إصدارها بالعربيّة في «مختارات شاملة». قليل من الشعر ينعش قلب الثائر
حسين بن حمزة
نعرف أن برتولد بريشت كتب الشعر، وأن شهرته الذائعة كاتباً مسرحياً كبيراً وصاحب منهج مسرحي متكامل غطَّت على شعره. حدث هذا في لغة الضاد كما حدث في لغات أخرى... وفي ألمانيا نفسها أولاً. يتجدد الكلام على شعرية بريشت (1898 ــ 1956) لمناسبة صدور طبعة ثانية من أعماله الشعرية بعنوان «مختارات شعرية شاملة» عن «دار الجمل» (صدرت الطبعة الأولى عن «دار الفارابي» عام 1986/ ترجمة أحمد حسان).
نقرأ هذا الشعر الذي غالباً ما عُُومل كممارسة هامشية إلى جوار عمله الأساسي، فنكتشف أنه كان عملاً أساسياً أيضاً، وأن الثراء الأسلوبي والتخييلي في هذه التجربة يضاهي ما يوجد في تجارب شعراء كبار أخلصوا للشعر وحده.
لم يمنع بريشت أفكاره الثورية وانتماءه الماركسي من التسرب إلى شعره. ثمة نكهة أممية وإنسانية واضحة ومتعمدة تطفو على سطح مفرداته وموضوعاته. لعلَّ هذا منح شعره مذاقاً خاصاً، داخل الصورة العامة التي نعرفها عن الشعر الألماني، وطالما تغذّى من الفلسفة وأقام معها تحت سقفٍ واحد. شعر بريشت أقل تفلسفاً، أو لنقل إن فلسفته سهلة على القارئ العادي الذي يُخاطب هنا بوصفه متلقّياً يمكنه تذوق الشعر كمحرِّض على التغيير والثورة على الاستغلال الذي يتعرَّض له. يذكِّرنا صاحب «الأم كوراج» ببابلو نيرودا وناظم حكمت ولوركا... وحتى والت ويتمان أكثر مما يذكرنا بريلكه وتراكل وهولدرلين.
شعر بريشت يلبّي فكره وموهبته، لكنه يمنح هذا الشعر طاقة إضافية تخوِّله العمل في «خدمة» الجمهور. بالنسبة إليه، الفن مسؤولية وموقف أيضاً. ألم يقل: «لن يقولوا: كانت الأوقات حالكة/ بل سيقولون: لماذا كان شعراؤهم صامتين». هناك رسالة في هذا الشعر. هذا صحيح، ولكن الصفة الرسولية لا تحجب الموهبة الفريدة التي كُتب بها. نقول هذا كي نطرد فكرة أن ارتباط اسم بريشت بالماركسية تحتِّم اعتبار نتاجه الشعري (والمسرحي أيضاً) بضاعة قديمة، انتهت صلاحيتها بسقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية. بالعكس، لعلّ قراءة بريشت اليوم فرصة لإثبات ديمومة القيم الإنسانية والفلسفية التي حملتها الماركسية، ولم تكن مرهونة بسلطة سياسية ولن ينتفي معناها بانهيار هذه السلطة.
لا يمكن تجنُّب المادة السياسية في أعمال بريشت، لكن السياسة لا تجعله سطحياً أو مبتكر دعاية مبتذلة لمعتقداته وأفكاره. السياسة هنا غالباً ما تحضر مصحوبةً بسعيٍ شعري واضح. بريشت نفسه كتب قصيدة يصف بها شعره من خلال مديحه للإعجاز الذي شاهده في «نقشٍ صيني لأسد»، وهو عنوان القصيدة. لنقرأ: «الأشرار يخشون مخالبك/ والأخيار تمتِّعهم رشاقتُك/ هذا/ ما أودُّ أن أسمعه يُقال/ عن شعري». ويقول في قصيدة أخرى: «فكرت مرةً أنه في العصور البعيدة/ حين تكون المباني التي سكنتُ فيها تهدّمت/ والسفن التي سافرتُ فيها قد تحللت/ سيظل اسمي خالداً/ بين آخرين».
الحقيقة أن قصائد بريشت لا تحتاج إلى من يُدافع عنه، في داخلها شعرية كافية لحفظها من العطب والفناء. إنها تفاجئنا بنضارتها وقوتها، ونكاد لا نعثر على قصائد ضعيفة في المختارات التي بين

قصائد لصيقة بالأمكنة التي سكن فيها


أيدينا، وخصوصاً في أعماله المتأخرة التي شهدت نضجه الكامل. وحتى في بداياته المبكرة، لا تزال قصيدة مثل «قائمة رغبات أورجه» تمتلك كل أسباب البقاء والوقوف إلى جوار قصائد يكتبها شعراء شبان اليوم. لنقرأ: «من المباهج، ما لا تُثقِل/ من الجلود، ما لم يُخدش/ من القصص، ما لا يُفهم/ من الاقتراحات، ما لا غنى عنه/ من الفتيات، الجديدة/ من النساء، غير المخلصة/ من النشوات الجنسية، غير المتوافقة/ من العداوات، المتبادلة/ من المنتجعات/ الموقتة/ من الفراقات، الفاترة/ من الفنون، ما لا يُفيد/ من المعلمين، من يمكن نسيانهم/ من المُتع/ ما لا يُختلَس/ من الأهداف، ما يتطلب المغامرة/ من الأعداء، الرقيقون/ من الأصدقاء، غير المهذبين/ من العناصر، النار/ من الآلهة، الأسمى/ من المطحونين، الخجولون/ من الفصول، المدرارة/ من الحيوات، الصافية/ من الميتات، العاجلة».
من جهة أخرى، يرتبط شعر بريشت بحياته وسيرته الشخصية. علينا ألا ننسى أنه فرَّ من ألمانيا عام 1933 مع صعود النازية وتسلم هتلر السلطة فيها. أقام في تشيكيا وفي الدنمارك التي غادرها عام 1940 إلى فنلندا، ثم إلى موسكو، وبعدها إلى الولايات المتحدة عام 1941. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سافر إلى برلين وعاش في ألمانيا الشرقية حتى وفاته. بالتزامن مع هذه المحطات، كتب بريشت «تأملات في المنفى» و«قصائد أميركية»، وهما مجموعتان ضمَّتا قصائد ذات موضوعات لصيقة بالأمكنة التي مكث فيها، كما هي الحال في نقده اللاذع لنيويورك وهوليوود، أو في رثائه لماياكوفسكي، أو في التقاطه البديع لفكرة المنفى. ولكن لِمَ لا نختم هذه القراءة بقصيدة «دخان» الأبعد عن «الأيديولوجيا»، حيث يسهل القبض على الشاعر وهو يكتب شعراً صافياً: «المنزل الصغير بين الأشجار بجانب البحيرة/ من السقف يتصاعد الدخان/ بدونه/ ما أشدَّ ما تكون/ وحشة المنزل والأشجار والبحيرة».