الافتتان بالتاريخ يتحوّل لديه إلى استراتيجية روائية متكاملة. هنا، رحلة امرأة تعكس في ثناياها الهجرات التي انطلقت من الساحل السوري في نهاية القرن التاسع عشر
حسين بن حمزة
في روايته الجديدة «أميركا» (المركز الثقافي العربي ـــــ دار الآداب)، وهي السادسة عشرة له، يروي ربيع جابر حكاية مرتا حداد ورحلتها عام 1913 من قرية بتاتر في جبل لبنان إلى العالم الجديد للحاق بزوجها خليل حداد، الذي انقطعت رسائله، وبلغها خبر زواجه بغيرها هناك. إنها مغامرة امرأة في النهاية، ولكن الرواية سترسم خلفية تاريخية واسعة لموجة الهجرات التي انطلقت من الساحل السوري في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
هل قلنا: خلفية تاريخية؟ هذا هو الفن الذي يبرع فيه هذا الروائي اللبناني، الذي بات التاريخ لعبته السردية المفضلة، إلى حد أن الوقائع والوثائق والإحصائيات تتسرب إلى لغته ونبرته بيسر وسلاسة. لم يحضر التاريخ في كل أعماله، ولكن حتى في روايات مثل «البيت الأخير» و«رالف رزق الله في المرآة» استثمر جابر أجزاءً حقيقية من سيرتَي المخرج اللبناني مارون بغدادي والأستاذ الجامعي رالف رزق الله لإنجاز «وثيقة» مكتوبة بتصرّف روائي. نستنتج من ذلك أن الافتتان بالتاريخ يتحول لدى صاحب ثلاثية «بيروت مدينة العالم» إلى استراتيجية روائية متكاملة. والطريف في الأمر أنه يستهل رواياته بالإشارة إلى أن “الأحداث والشخصيات هي من نسج الخيال ....”. القرّاء اعتادوا حضور التاريخ وتأويلاته، ولعل أغلبهم يستمتع بذلك ويعدُّه خاصية متوقعة في شغل هذا الروائي الشاب الذي يلفتنا بغزارة نتاجه.
نعود إلى الرواية. مرتا حداد الساعية إلى لقاء زوجها تعثر على عنوانه فعلاً، ولكنها تُوقف العربة التي أقلَّتها أمام بوابة منزله، تراه مع زوجته الجديدة ويراها، لا تترجل هي من العربة ويبقى هو في جلسته. لحظات كانت تكفيها لتنسى ما جاءت لأجله وتقرر العودة إلى نيويورك. القارئ يفهم أن عدم حدوث اللقاء هو خيار روائي (ذو أساس واقعي طبعاً) يفتح الرواية نفسها على آفاق أخرى أوسع وأكثر تشويقاً. حياة مرتا حداد الجديدة تبدأ من تلك اللحظة. تعتمد على نفسها. تعمل في مصنع هرمان تاكر الذي سبق لزوجها أن عمل فيه. تفتح متجراً صغيراً. تتسع

«حدوتة» مشوّقة تأسر القارئ حتّى الجملة الأخيرة


أعمالها. تشتري عقارات ويزداد حسابها في البنك. وبعد ستين عاماً من حياتها الأميركية، تنتهي بأن تكون عجوزاً ثرية وسعيدة، تنتظر أجلها محاطةً بأبناء وأحفاد. في غضون ذلك، تواصل رفضها لقاء زوجها الذي يموت في الحرب العالمية الأولى. ترضخ لرغبة مهاجر آخر هو علي جابر وتتزوجه (هناك إيحاء بأن المؤلف هو أحد أحفاد هذا الزواج). تترمَّل ثانيةً وهي في الأربعين. هذه خطوط عريضة جداً لحكاية مرتا حداد المكتظة بجزئياتٍ تُضيء حيوات شخصيات أخرى من «المجتمع السوري» في أميركا. المؤلف يروي الحكاية مباشرة للقارئ. الكتابة هنا تكسب شرطها الحكائي البسيط كـ «حدوتة» مشوِّقة يمكنها أن تأسر القارئ وتُزوِّده بفضولٍ شديد لمعرفة مصير البطلة ومصائر من يعيشون في حياتها. قد لا تُقنع روايةٌ كهذه قراءً متطلِّبين يفضِّلون روايات معقدة أكثر أو قائمة على طبقات سردية وتحليلية وتخييلية تقرِّبها من البحث الاجتماعي والثقافي. رواية ربيع جابر لا تنقصها هذه التعقيدات، ولكنها موجودة هنا كجزء من البنية البسيطة للرواية نفسها.
هناك خفة سرديةُ طاغية، متعمدة ومشغول عليها جيداً، في معظم أعمال ربيع جابر. خفة ممزوجة بقدرة واضحة على خلق علاقة حميمة ومتنامية بين القارئ وبين شخصيات الرواية. يحسِّسنا صاحب «يوسف الإنجليزي» بولعه التاريخي والتوثيقي ويسعى إلى نقل عدوى هذا الولع إلينا. قد لا يميل بعضنا إلى هذا النوع من النصوص الملتزمة بتواريخ ومحطات زمنية وشخصية محددة. قد يُضجرنا نفوذ ربيع جابر وسلطته الكاملة على مجريات روايته، ولكننا لا نستطيع أن نسهو عن الجهد الكبير الذي يبذله في إنجاز روايات تشبه مزاجه وطموحاته. روايات قادرة على إدهاشنا وخطف أنفاسنا بمجرد أن نبدأ بقراءة صفحاتها الأولى.