فيلمان يحملان التوق إلى الحرية، ويعطيان الصدارة لشخصيّات عربيّة: «نبي» جاك أوديار، الذي يُعرض حاليّاً في بيروت، وباكورة لينا فيهنر «ليصمد واحد فقط...»، تدور أحداثهما في السجن، وينتميان إلى «سينما المواطنة» التي تمثّل احتجاجاً على عهد الرئيس ساركوزي
باريس ــ عثمان تزغارت
في وقت تشهد فيه فرنسا جدلاً سياسياً محتدماً بشأن «الهوية الوطنية» على خلفية تزايد «الإسلاموفوبيا» التي يحاول الائتلاف اليميني الموالي للرئيس ساركوزي تغذيتها، يثبت الرأي العام في موطن فولتير أنّه لم يعد يتأثر بمنطق تغذية العداء ضدّ «الأجنبي». بعد انتخاب مليكة مينار ذات الأصول المغاربيّة «ملكة جمال فرنسا» لعام 2010، في اقتراع مباشر، جاءت المبادرة الثانية من الفنّ السابع. نال فيلمان تحتل فيهما شخصيّات عربية مكان الصدارة «جائزة لوي دولوك» المرموقة (غونكور السينما). إذ حصل «نبي» جاك أوديار الذي يتقاسم بطولته 5 ممثلون من أصل عربي (راجع المقالة أدناه)، جائزة أفضل فيلم فرنسي. بينما نالت باكورة ليا فيهنر Qu’un seul tienne et les autres suivront جائزة أفضل عمل أول. يأتي هذا التكريس النقدي، ليزيد حظوظ الشريطين في جوائز «سيزار» (الأوسكار الفرنسي) في شباط (فبراير) المقبل. «نبي» الذي يُعرض في بيروت، حاز أيضاً «الجائزة الكبرى للجنة التحكيم» في «مهرجان كان»، فيما نال «ليصمد واحد فقط... والآخرون سيتبعون» جائزة «ميشال دورنانو» في «البندقية». وإذا كانت الحفاوة النقدية لا تترافق، إلا نادراً، مع النجاح الجماهيري في مجال السينما، فإن عملَي أوديار وفيهنر يمثّلان استثناءً: تجاوز كلاهما عتبة المليون مشاهد في الصالات الفرنسيّة، ووزّعا في عشرات الصالات حول العالم. السجن هو مسرح الأحداث في الفيلمين المشار إليهما، ويمكن تصنيفهما في خانة «سينما المواطنة»، التي بدأت تحتل مكانها منذ هبوب رياح الساركوزية على بلد الأخوَين لوميير. هذا التيار الفني الناشئ الذي جاء امتداداً (بديلاً؟) لـ «سينما الالتزام» في الستينيات، برز أخيراً عبر أفلام عدّة، بدءاً بـ«بين الجدران» للوران كانتيه مروراً بـ Welcome لفيليب ليوري، وصولاً إلى رائعة كوستا غافراس «عدن غرباً» L’Eden à l’Ouest...

الشاب الخجول والأميّ سيصبح سيّد السجن، ويبسط سلطته على المافيا الكورسيكيّة والأصوليّة الإسلاميّة
تتخذ «سينما المواطنة» من التّوق إلى الحرية تيمتها الأثيرة، رافعةً «واجب المواطنة» فعل عصيان المدني ضدّ الفكر الأحاديّ، الذي تتخبّط فيه الطبقة السياسيّة الفرنسيّة في عهد ساركوزي. اللافت أنّ العملين يغرفان من النبع ذاته. كلا المخرجين يعترف بأنّه حين تصدى لإنجاز عمل عن عالم السجن، كانت مرجعيته شريط «الحفرة» Le trou (1960) وهو من كلاسيكيات السينما الفرنسيّة ختم به جاك بيكر (1906 ـــــ 1960) مسيرته وحياته. استعار أوديار وفيهنر من صاحب «أنطوان وأنطوانيت» (السعفة الذهبية ـــــ 1947) المنحى المينيمالي والرؤيا الواقعية التي تكاد تضاهي السينما التسجيلية. صراعاتٌ وتحالفات سرية تقلب جدلية الجلاد/ الضحية، وفق وتيرة سيزيفية عنيفة. كلّ هذا يأتي تعبيراً عن سمة مرحلة: مرحلة الحروب الاستعمارية في حالة بيكر، والعهد الساركوزي في حالة صاحبي «نبي» و«ليصمد واحد فقط...». حين يُحكم بالسجن على مالك الجبانة، بطل «نبي» (طاهر رحيم، زار بيروت أخيراً ضمن «مهرجان الفيلم الأوروبي»)، يعتقد الجميع أن هذا الشاب الخجول والأمّي، سيكون فريسة سهلة للمافيات التي تتقاسم النفوذ داخل السجن. لكن غريزة البقاء تولّد لديه عبقرية تجعله يسحب البساط من تحت أرجل المافيات الكورسيكية والجماعات الأصولية الإسلامية. هكذا، يبسط سطوته ويتحوّل إلى وحش كاسر، بفعل التلاعبات الماكيافيلية التي توظف الانتماءات العرقية والدينية للاستحواذ على السلطة والمال. أما «نبوءة» الشريط، فتتمثّل في التحذير من مخاطر مثل هذه الإدارة الماكيافيلية للنفوذ، لأن السحر قد ينقلب على الساحر (ترى هل شاهد ساركوزي الفيلم؟).
أما ليا فيهنر، فاختارت لفيلمها فضاءً أضيق ينحصر في قاعة الزيارات داخل السجن. تسلّط الضوء على صراعات هذا «المطهر» الفاصل بين السجن والعالم الخارجي. يصوّر فيلمها المصائر المتشابكة لأم جزائرية زهرة (فريدة رهواج) تأتي لمواجهة قاتل ابنها، والمراهقة لور (بولين إيتيان) تزور حبيبها السجين، وشاب يدعى ستيفان (رضا كاتب) يكتشف أحد المحامين أنه يشبه موكله، فيغريه بالمال ليأخذ مكانه في السجن على غفلة من الحرّاس...
مع توالي الزيارات، وعبر هذه البورتريهات المتقاطعة، يصوّر الفيلم كيف تضيق المساحة الفاصلة بين البريء والمذنب، بين الضحية والجلاد. يسلّط حراس السجن على الجميع (نزلاءَ وزوّار) معاملة غير إنسانية تسلّع كل شيء وتُخضع الأمور لمنطق الربح. صمود كلّ شخصيّة يتأتى من إنسانية الآخر الذي يواجه معها الوضع المجحف ذاته. هكذا، يستمد بعض زوّار المطهر من بعض شجاعة الاستمرار.

«نبي» ـــــ صالات «غراند سينما» ABC) 01/209109)، «غراند كونكورد» 01/343143

«حفرة» جاك بيكر

عن «الحفرة» (1960) يقتبس جاك أوديار وليا فيهنر عوالم السجون السفليّة. الشريط الذي أنجزه جاك بيكر في عام رحيله، يروي بواقعيّة فجّة قصّة أربعة سجناء يتشاركون زنزانة واحدة، ويخططون للهرب، حين ينضم إليهم متّهم بقتل زوجته. في العمل الذي عدّه فرانسوا تروفو رائعة بيكر، مُنحت الأدوار الرئيسة لممثلين غير محترفين، منهم من عاش تجربة السجن سابقاً. صوّر صاحب «مغامرات أرسين لوبين» بطريقة توثيقية لا تخلو من الرهافة، التخطيط للهرب بالأبيض والأسود. نراه يتتبّع علاقات الثقة والشك التي تُنسج بين النزلاء الخمسة. هنا، لا تصبح مسألة الفرار قضية حياة أو موت، بل مناسبة لتوجيه نقد لاذع إلى نظام يعامل سجناءه كحيوانات. اختتم بيكر مع «الحفرة»، مسيرة طويلة من الانشغال بالهمّ السياسي، والعمل على تصوير المجتمع الفرنسي ما بعد الحرب العالميّة الأولى، وفي مرحلة صعود الاستعمار، بعدسة لا تخلو من السخرية.


أبناء الهجرة العربيّة يقتحمون الشاشة



النجاح الذي يحقّقه «نبي» جاك أوديار، وباكورة ليا فيهنر «ليصمد واحد فقط... والباقون سيتبعون»، يسلّط الضوء على جيل جديد من الممثلين العرب، الذين بدأوا يشقون طريقهم إلى واجهة السينما الفرنسية. لم يخرج هذا الجيل من معطف الكوميديا على غرار الجيل الذي سبقه (جمال دبوز، سامي ناصري، رشدي زام...)، بل طلع من أتون الضواحي المشتعل. وكانت قناة +Canal الفرنسيّة سباقةً في هذا الإطار، من خلال تصوير مسلسلات ذات منحى واقعي عن أوساط المهاجرين بعد انتفاضة الضواحي عام 2005.
في مقدمة هذه الأعمال ثلاثة هي«الكومونة»، و«جهاد»، وEngrenages. أسهمت هذه المسلسلات في اكتشاف الممثلين الخمسة الذين يتقاسمون بطولة «نبي»، وكلّهم من أصول عربيّة: طاهر رحيم، وعادل بن شريف، وهشام يعقوبي، وسليمان دازي، ورضا كاتب، الذي يؤدي أيضاً الدور الرئيس في «ليصمد واحد فقط...». تُجمع الأوساط النقدية الفرنسية على أن طاهر رحيم ورضا كاتب كانا أبرز اكتشافات الموسم الحالي. رُشّح الأول لنيل «سيزار» أفضل ممثل، فيما رُشح الثاني للجائزة ذاتها عن فئة أفضل ممثل واعد.
قبل أن يتقمص دور مالك الجبانة في نبي، عمل طاهر رحيم مع كاتب سيناريو الشريط، عبد الرؤوف ظافري، في مسلسل La Commune، وأدّى دوراً ثانوياً في شريط «في الداخل» لألكسندر بوستيلو وجوليان موري (2007). وفي العام نفسه، أنجز تحت إدارة المخرج سيريل مينغن Cyril Mennegun، فيلماً بعنوان «طالب اسمه طاهر»، عبّر فيه عن أحلامه بأن يصبح ممثلاً سينمائياً كبيراً. لم يتوقّع أحد أن تتحقق أحلام الشاب الذي ولد لأبوين مغربيين، عام 1981، في مدينة بلفور (شمالي فرنسا) بهذه السرعة.

رشّح طاهر رحيم ورضا كاتب لجوائز «سيزار» الفرنسيّة
أما رضا كاتب، فينتمي إلى عائلة فنية مرموقة. والده، مالك كاتب، ممثل مسرحي وسينمائي شهير، مثّل تحت إدارة مخرجين كبار، من رشيد فارس إلى مرزاق علواش، ومن جان ماري سيرو إلى أريان منوشكين. أما جدّه، مصطفى كاتب، فهو أحد مؤسسي «المسرح الوطني الجزائري». ولم تكن مصادفة أن تحمل باكورة هذا الشاب المسرحيّة عنوان «الشاعر المحاصر» مستوحاة من أشعار (عمّه) كاتب ياسين.
اكتشف جاك أوديار رضا كاتب في مسلسل Engrenages وأسند إليه في «نبي» دور جوردي الغجري وهو يرفض الانتماء إلى العصابات التي تتنازع النفوذ في السجن، مفضّلاً الانصراف إلى هوايته الموسيقية. أما ليا فيهنر، فقد اكتشفت رضا في مسلسل Mafioza، الذي تدور أحداثه في كورسيكا. وقد كان أداء رضا كاتب الناجح لشخصية غير عربية في ذلك المسلسل عاملاً مشجّعاً دفع ليا إلى منحه دور ستيفان، الشخصية الأساسية في «ليصمد واحد فقط...».