بيار أبي صعب«ليس من عادتي أن أتكلّم... لكنّني أحمل إليكم خبراً في منتهى الحزن. مات رجل كنتُ أناديه «الخال». جان فيرّا في مكان ما فوق». رفعت إيزابيل أوبريه ذراعيها إلى الأعلى، فاختنقت الصالة بشهقة واحدة. وراح الأربعة آلاف مشاهد يدمدمون معها أغنيات Ferrat الأثيرة: «فرنسا موطني»، و«إنّها جميلة... الحياة»، و«الحب حتّى فقدان الصواب»... الواقعة نقلها صحافي أوّل من أمس، حضر في مدينة تور الفرنسيّة تلك الحفلة الجماعيّة الخاصة بأغنيات الستينيات والسبعينيات.
إيزابيل أوبريه... جان فيرّا! حكاية «السنوات السعيدة، والأغنيات الجميلة» التي تركت بصماتها على وعي (وذائقة) أجيال متلاحقة. انطفاء صاحب الشاربين الضخمين والشعر الأبيض الكثيف، والصوت الرخيم والرقيق، في التاسعة والسبعين، بعد صراع طويل مع السرطان، يمثّل حدثاً وطنياً في فرنسا. انهالت ردود فعل عشرات السياسيين والمثقفين والفنّانين، بدءاً برأس الدولة وقادة المعارضة. محطات التلفزيون غيّرت برامجها لتوجّه إليه تحيّات خاصة، علماً بأن فيرّا لم يكن معتاداً تلك الحفاوة. في البداية عانى مع الرقابة، ومنعت أغنياته في الإذاعة والتلفزيون. أما بعد التكريس، فقد أدار هو ظهره لمجتمع الاستعراض، واختار الاستقرار منذ ١٩٧٣ في منطقة أرداش (جنوب شرق فرنسا)، عند ذلك «الجبل» الذي غنّاه، برفقة زوجته التي توفّيت في عام ١٩٨١.
غنّى الثورة والتمرّد والعدالة والحبّ، واقترن اسمه بشعر أراغون
برحيل جان فيرّا يسدل الستار على فصل مشرق في تاريخ «الأغنية الفرنسيّة». «الخال» جان كان الضلع الأخير في المربّع الخالد الذي ضمّ إليه جاك بريل وجورج براسينز وليو فيري... لكن، خلافاً لزملائه الفوضويّين، كان الأخير فنّاناً ملتزماً. وبقي رفيق درب الحزب الشيوعي الفرنسي، علماً بأنّه لم يحمل يوماً بطاقة حزبيّة. كان مناصراً للمرأة والمستغَلّين، مناضلاً على جبهة العدالة الاجتماعيّة، متمرّداً على البنى القائمة والسياسات الاستعماريّة، وكل أشكال العبوديّة. لكنّه لم يكن «بوقاً سياسياً» كما ذكّر جورج موستاكي في رثائه. في أغنيته «أيّها الرفيق»، أدان التدخّل السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا: «ماذا جئت تفعل هنا أيّها الرفيق/ ماذا جئت تفعل هنا؟/ عند تمام الخامسة في براغ/ غرق شهر آب في الظلام»... وفي أوّل الثمانينيات ردّ على تصريح لجورج مارشيه، الأمين العام للحزب الشيوعي آنذاك، بشأن «الحصيلة الإيجابيّة عموماً» في الدول الاشتراكيّة، بأغنية لاذعة عنوانها «جردة إيجابيّة».
بالنسبة إلى كثيرين، يبقى مغنّي الحب بامتياز. ألم يقترن اسمه بالشاعر لوي أراغون منذ لحّن «عينا إلسا» في بداياته (١٩٥٦) التي أداها موريس كلافو، وصولاً إلى أسطوانته الأولى الخاصة بأغاني «مجنون إلسا» في عام ١٩٧٤: «ما مصيري من دونك أنت من جاء لملاقاتي؟»، «الحب حتّى فقدان الصواب»... وقد عاد في « فيرّا ٩٥» فقدّم مجموعة قصائد لأراغون. فيرّا هو تلك العذوبة التي لا تقال، كما تجلّى للجمهور منذ ١٩٦١ مع Ma môme (صغيرتي). كلمات حب عاديّة، وتفاصيل الحياة اليوميّة ومشاعرها من موقع الرفيق المتمرّد الواقف في صف البسطاء والمستضعفين. وقد قامت إيزابيل أوبريه بأداء أبرز تلك الأغنيات حتّى صارت البعد الآخر لصوت جان فيرّا.
كل تلك المسيرة مرتبطة بالطفولة «التي لا نشفى منها» كما غنّى. ابن المهاجر الروسي اليهودي الذي اقتيد في الحرب الثانية إلى معسكرات الموت النازيّة، لن ينسى أنّه مدين بحياته لمناضلين شيوعيين. وقد عاد إلى تلك المرحلة المظلمة في «ليل وضباب» التي أهداها إلى ضحايا المحرقة «من كل الأديان والانتماءات». فيرّا الذي «لا يغني لتمضية الوقت»، رجع من زيارة حاسمة إلى كوبا في عام ١٩٦٧، فأطلق شاربيه الأسطوريين ورافق الانتفاضة الطالبيّة بأغنية «في الربيع بمَ كنت تحلم؟». غنّى «كومونة باريس»، «وفرنسا» وطن «الذين يبنون بأيديهم مصانعكم»، وغنّى «بوتمكين»، البارجة الشهيرة التي انتفض بحّارتها مطالبين بحقوقهم، فقمعهم فقراء آخرون في خدمة السلطة: «أيها البحّار لا تطلق النار على بحّار آخر»... وغنّى : «الشاعر دائماً على حقّ/ إنّه يرى أبعد من الأفق/ والمستقبل مملكته./ في مواجهة جيلنا أعلن مع أراغون:/ المرأة هي مستقبل الرجل».
توارى جان فيرّا عن الأنظار في السنوات الأخيرة. لكن ذلك لم يمنعه من إعلان دعمه لقائمة «جبهة اليسار» في الأرداش (كان عضواً في مجلسها البلدي بين ١٩٧٠ ـــــ ١٩٨٣)، في الانتخابات الجهويّة التي تبدأ بعد أيّام في فرنسا. كان مقلاً خلال العقدين الأخيرين، لكنّ المختارات التي أصدرتها شركة «باركلي»، وتضم باقة من أشهر أعماله، حققت نجاحاً مذهلاً في الخريف الماضي، وحازت «أسطوانة البلاتين». لم يتمكّن جان من المجيء إلى «قصر المؤتمرات» في باريس، فكلّف إيزابيل بتسلّم الجائزة. إيزابيل نفسها التي نقلت إلينا السبت نبأ موته.