يقف مارتن سكورسيزي في مواجهة الهمجيّة النازيّة، فيحقّق شريطاً مسكوناً بسؤال الشرّ، رأى النقاد أنه أكثر أعماله سوداويةً ويأساً.«جزيرة شاتر» فيلم يلقي فيه نظرةً باردة على الولايات المتحدة. حالياً في الصالات اللبنانية

تغريد العيسى
يقف ليوناردو دي كابريو مستنداً إلى مقدمة السفينة. سحنته التي بدا عليها المرض لا تمتّ بصلة إلى ذلك المتحمّس العاشق الذي وقف على مقدمة سفينة «تايتانيك» ذات يوم. بعد تعاونه المتكرر مع مارتن سكورسيزي، تغيرت أحوال دي كابريو من الحبيب المثالي إلى المريض المثالي. وهذه السفينة ستحمل المارشال تيدي دانيالز (دي كابريو) إلى «جزيرة شاتر».
في Shutter Island، يعود صاحب «من ذا الذي يطرق بابي» إلى حقبة الخمسينيات مع دي كابريو الذي بات ممثله المفضل. ولدى الحديث عن العودة إلى تلك الحقبة، لا نقصد قصة الفيلم فقط. هنا، يستند سكورسيزي إلى أساليب سينما الخمسينيات، وخصوصاً الأفلام الأميركية التي أطلق عليها الناقد نينو فرانك تعبير Film noir (الفيلم الأسود) وتدور عادةً حول التحقيق في جريمة. وهي تستند إلى تقنيات وأساليب معيّنة، كتعدد الذروات والتصوير في ظروف صعبة ومضلّلة تشبه مسرح أحداث Shutter Island، وتقديم الشخصيات في مرارة وجودية، يمثّل المارشال دانيالز تجسيداً نموذجياً لها.
ليست هذه العودة السكورسيزية إلى عالم الفيلم الأسود الممتزج بالتعبيرية الألمانية وتفاصيل هيتشكوك المرعبة، مجرد مصادفة إذا راجعنا تاريخ هذه الأشكال السينمائية، التي ظهرت إبان الكساد الكبير في أوائل الثلاثينيات واستمرّت بعد الحرب العالمية. أليست مجموعة أحداث تشبه حالة العالم المزرية الآن؟
تدور أحداث الفيلم في 1954، حين ينطلق المارشال دانيالز مع شريكه المارشال تشاك (مارك رافيلو) إلى Shutter Island، سجن ومشفى المجرمين المصابين بالأمراض النفسية. هناك، يحاولان حل لغز اختفاء المريضة راشيل سولاندو (إميلي مورتيمار) المصنفة مجرمةً خطيرة بعدما أغرقت أطفالها الثلاثة في البحيرة.
مع الوقت، تنكشف شكوك دانيالز حول المؤامرة الأميركية على العالم. المحقق الذي فقد زوجته في حريق، يعتقد أنّ هذا المصحّ هو مقر لإجراء تجارب على عقول المساجين للوصول إلى إنتاج «الشبح»، إنسان ستطلق يده في العالم ليفعل أي شيء. ومثلما استغل السوفيات العمّال والنازيّين، ستفعل أميركا الأمر نفسه بالمجرمين والمجانين.
العنف يقابله شعور جماعي بالذنب، مضافةً إليه ريبة تجاه العالم...
وبما أنّ حبكة الشريط تستند إلى تداعيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، يجد سكورسيزي نفسه لأوّل مرة أمام الهمجية النازية. دانيالز ممن حرروا اليهود من أحد مخيمات الاعتقال النازية. يصاحبه شعور عميق بالذنب وتسيطر عليه كوابيس وذكريات عن مئات الجثث المتجمدة تحت الثلج. العنف الجماعي يقابله الحس الجمعي بالذنب، يضاف إليه الشعور بالريبة تجاه العالم... ميزات عرفنا بها سكورسيزي.
ولعلّ جديده هنا سيكمن في استخدامه الفاقع لأساليب المسرح بغية تنفيذ مشاهد هلوسات دانيالز وكوابيسه، كما اعتمد على الميلودراما. كل من يحن إلى سينما الخمسينيات، سيحن إلى ميلودراما دوغلاس سيرك، وعوالم فينسيت ميناللي مبتكر اللغة التعبيرية الجديدة آنذاك، وهما من آباء سكورسيزي كما يذكر الشريط الوثائقي «رحلة شخصية مع سكورسيزي».
استخدم صاحب «كازينو» الموسيقى جزءاً لا يتجزأ من الشخصيات، وتعمل كبساط سحري ينقلنا مع دانيالز من هامش نفسي إلى آخر. طيلة الفيلم وسكورسيزي يلمِّح عبر عصبية دانيالز إلى أنّه ليس محققاً، بل أحد هؤلاء المجانين الخائفين من القنابل الهيدروجينية والنووية وصناديق التلفزيون.
قد يدفع الفيلم إلى التساؤل عن مصير مخيّلة هيتشكوك لو عاش في عصر الغرافيك. من المثير أن نعلم أن روب ليغاتو مدير تصوير «جزيرة شاتر» هو نفسه مدير تصوير «أفاتار». وقد استعان به سكورسيزي واستنطق الاثنان الجنون البصري الهيتشكوكي في مشاهد عدة، كمشهد وقوف دانيالز على الجرف تحت عاصفة هوجاء وسماء رمادية عاجزاً عن الوصول إلى مبتغاه، وهو المنارة. هناك، تظهر له مئات الفئران السوداء، لتذكِّرنا بطيور هيتشكوك لكن بتقينات معاصرة تبقي على أثر الزمن في آن واحد. إذ إنّ سكورسيزي من المدرسة القديمة القائلة باستخدام التقنيات العادية لا الرقمية إلا عند الضرورة.
صوَّر ليغاتو هذه اللقطات فوق منحدرات كاليفورنيا الوعرة بكاميرا ثلاثية الأبعاد لتخدم رؤية المخرج المتطلب للمسافة بين المنارة ودي كابريو والمنحدر، تلك اللقطة التي يسميها «لحظة الفزع». وبهذا النوع من اللحظات، يخلق سكورسيزي حبكات عدّة ويبرز تعقيدات الشخوص. وقد يوضح ذلك سرّ ظهور دي كابريو كل مرة بصورة جديدة مع صاحب Aviator. في آخر مشهد، يقول المارشال «أيهما أسوأ أن تعيش كوحش أم تموت كرجل صالح؟»، فيما يقوده الممرضون إلى حتفه النفسي، مثلما ينقاد أنصاف المجانين وهم معظم أفراد المصحة النفسية العظمى في العصر الحديث.


عنف وغموض

أُخذت قصة Shutter Island الذي نزل أخيراً إلى الصالات اللبنانية، عن الرواية بين الأكثر مبيعاً في أميركا، وتحمل العنوان نفسه. الرواية كتبها الأميركي دينيس ليهان الذي يشترك مع سكورسيزي في تناول العنف المتّشح بالغموض والقابل للجدل. هو نفسه كاتب Mystic River لشون بين. هذا الفيلم يحكي قصة ذات حبكة مشابهة تقريباً تتناول التحقيق في جريمة قتل ضمن ظروف ملتبسة تقود جميع الأبرياء إلى العنف الذي يقود إلى التعاطف. وهو الأمر ذاته الذي يحدث لدى الكشف عن حقيقة دانيالز في Shutter Island. إذ يتبيّن أنّه قتل زوجته تعاطفاً معها بعدما أغرقت أطفالها الثلاثة في البحيرة. أما المريضة راشيل سولاندو، فليست سوى من نسج خياله!

«سينما سيتي» (01/899993)، «أمبير غالاكسي» (01/544051)، «لاس ساليناس» (06/540970)، غراند سينما ABC (01/209109)، «غراند كونكورد (01/343143)