Dox Box نجح في خلق حالة حوارمحمد ملص *
العرض الأول للفيلم الوثائقي «كلام حريم» لسامر برقاوي وعدنان عودة، ثم الحوار مع الجمهور إثر عرضه ضمن «مهرجان دوكس بوكس» في دمشق، أثارا لديّ مشاعر متعددة. هذا الفيلم المصوغ بتصور سينمائي ناضج، يحكي بلغة حميمة وصادقة منظور الرجال إلى المرأة في منطقة الفرات، والمكانة المحدودة التي يمنحونها إياها.
الواقع الاجتماعي الطاغي على حياة هؤلاء الرجال، يقدمه المؤلفان على مساحة الفيلم، لكنهما قبل النهاية، ينزلان بالفيلم إلى ما تحت الطاولة المعتم، ليتيحا الفرصة لهذه المرأة بما تملك أن تعبّر عن نفسها، فلا تملك حينها إلا صوتها لتغني قدرها ومصيرها!
الفيلم صادق وعذب، لكن ما أثاره لدي شيء آخر. الشيء الأول يرجع إلى اختلاط المفاهيم وانحراف محاورها الأساسية، حول العلاقة بين السينما والتلفزيون التي تطغى هذه الأيام في سوريا. صانعا الفيلم محسوبان على ما يسمى الدراما السورية. وبصرف النظر عما يفعلانه في الدراما، إلا أنهما في «كلام حريم» يفصحان بوضوح عن الاختلاف بين السينما والتلفزيون، وكيف عليك أن تختلف في التناول والتعبير بينهما. وأقصد أنّ التوجه للسينما يبدأ أولاً من وجود التصور السينمائي، وشتّان ما بين التصور السينمائي والتصور ـــــ إن وجد ـــــ للعمل الدرامي التلفزيوني.
نجا سامر برقاوي وعدنان عودة بامتلاكهما التصور السينمائي الصرف، من المحاولة المنافقة لنقل السينما إلى التلفزيون، ولم يتورطا في المحاولة المقنعة لنقل التلفزيون إلى السينما، فقدما وثيقة سينمائية محضة نقبلها أو نرفضها.
الصدق والحميمية خياراً، وفعل ولاء للفن السابع
الشيء الآخر هو الحوار مع الجمهور الذي ترك فيّ أسى كبيراً. إذ كان أشبه بكرة تتقاذفها عناوين عامة. كانت الأفكار تراوح بين المانشيتات الصحافية وصدى مقولات ثقافة إعلانية. كل ذلك مغمس بردود أفعال قائمة على الدفاع القبلي أو المناطقي! ردود أفعال لا تريد أن ترى نفسها ولا الواقع الذي يحيط بها وتنتمي إليه، ما يكشف عن مأساة انقطاع الحوار الحقيقي بين الناس، وربما بين المثقفين أو متابعي الحياة الثقافية التي غدت اليوم تتنفس عبر رئات نادرة كتظاهرة السينما الوثائقية هذه.
لقد عكس الحوار الأثر الذي تركه غياب الحياة السينمائية التي تعيش على العروض والحوارات والنقد الحقيقي. وإذا كان لتظاهرة «أيام سينما الواقع» أهمية بما تعرضه، فإن تميزها الأهم يكمن في إقامتها حواراً بين صانعي هذه الأفلام ومتلقيها، وخصوصاً الحوار حول الواقع والسينما في سوريا. وهذه دعوة للتظاهرة لتكون أكثر وفاءً لما تعلنه عن نفسها.
وبالعودة إلى «كلام حريم»، يمكننا قراءة ما تعرّض له الفيلم نفسه، عبر أربع سنوات من العمل والمماحكة للوصول إلى عرضه الأول هذا. صانعا الفيلم يعودان إلى منطقة الفرات التي كانت الأكثر جاذبيةً للسينما الوثائقية السورية في السبعينيات والثمانينيات. رغم مرور هذا الزمن، لا تختلف صورة الواقع في العمل عن الواقع التي أفصحت عنه الأفلام الوثائقية التي تحققت في تلك الفترة. الواقع ما زال كما هو ولم يتغير شيء إلا السينما ذاتها. هذا الفيلم ينتمي إلى سينما اليوم ليس بلغته فقط بل بعدم وقوعه في فخ المنظور السياسي والإدانة المسبقة. لكن لا بد من الاعتراف بأن الرسالة التي كانت تطمح إلى إيصالها تلك الأفلام، بقيت ذاتها يستنتجها المتفرج من «كلام حريم».
حين يتساءل المتفرج عن «الحميمية» والصدق في لغة الفيلم السينمائية الجميلة، لن يحتاج إلى إجابة من خارج الفيلم نفسه. وقد حاول عدنان عودة خلال الحوار التائه الكشف عن أن هذه الشخصيات التي شاهدناها هي أسرته، وأن تلك المرأة التي غنت هي أخته. الصدق والحميمية هما أولاً خيار وولاء للسينما، على السينمائي أن يختاره أو لا. وخيارهما لـ«كلام حريم» هو تحيّة للسينما، لذا لا بد من تحية لصانعيه. كما لا بد من الأمل بألّا يكون «كلام حريم» كلام ليل يمحوه النهار.
* سينمائي سوري