محمد خيرماذا لو كان نصر حامد أبو زيد قد وقف أمام المحكمة في ذلك الصباح المأساوي قبل خمسة عشر عاماً، التقط نفساً عميقاً، ثم نطق بالشهادتين أمام القاضي ورجال الدين ومندوبي الإعلام؟ ماذا لو فعل ذلك، ثم اصطحب زوجته الدكتورة ابتهال يونس إلى البيت، وحمل أوراقه في اليوم التالي إلى الجامعة ليمارس وظيفته... كأنّ شيئاً لم يكن؟
كما نعلم جميعاً، لم يفعل أبو زيد أيّاً من ذلك. رفض نطق الشهادتين أمام جلّاديه، رفض التمسك بالمنصب الأكاديمي أو بوثيقة الزوجية الرسمية، ترك وطنه ومضى إلى هولندا، إلى غربة لم تنتهِ أبداً. لقد أدرك القارئ والمثقف العتيد، أنّه في صدد السؤال الشكسبيري الأشهر «أكون أو لا أكون»، وأنّ تراجعه أمام «سلطة البحث في قلوب الناس»، في سبيل السلامة والاستقرار، يعني موت «فكرته» إلى الأبد. إنّها الحقيقة التي أدركها سقراط بين أيدي جلّاديه، والحسين في تخوم كربلاء، وغيفارا في أحراش بوليفيا. ولأنّ مجالات الرجال الثلاثة، الفلسفة والتاريخ الإسلامي والسياسة، في لبّ اهتمام نصر حامد أبو زيد، فقد كان يعي تماماً خطورة الكلمة إذا نطقها أو لم ينطقها. لكنه كان، في النهاية، باحثاً لا ثائراً. لذا، فقد انتقى بين التراجع والإقدام طريقاً ثالثة: الهجرة. لم يبقَ في بلده كي لا تستهلكه المعارك، صحيح أنّه جرب سؤال هاملت، لكنّه لم يُرد مصير دون كيشوت.
موهبة الدأب لا تظهر مصادفةً أو فجأة. الرجل الذي ظلّ يعمل فنّياً بسيطاً في مجال اللاسلكي لمدّة 11 عاماً، حتّى أكمل تعليمه وارتقى إلى وظيفة في جامعة القاهرة، هو الرجل ذاته الذي واظب على أبحاثه بالتزامن مع إطفائه مئات الحرائق الصحافية. أراده صحافيون عرب وأجانب رجلاً موتوراً ضد الشرق، نموذجاً إضافياً ونسخة مكررة من «الهاربين من العالم الإسلامي». لكن أبو زيد الذي دافع عن رؤية تاريخية للنص الديني، لم يكن ليحاكم العالم الإسلامي سوى بالمعايير التاريخية ذاتها، واضعاً في الاعتبار الظروف السياسية ومستوى الوعي وحالة التعليم.
أراد انتزاع مسؤولية التأويل من رجال الدين لمصلحة الباحثين والدارسين
ظلّ حريصاً ليس على صورته فحسب، بل الأهم على دوره كأستاذ، وكباحث يرى مهمته هائلةً لأنّ من ضمنها تأسيس قواعد لاهوتية لقراءة النص الديني، لأنها مهمة «تخرج من دائرة الإصلاح الديني إلى دائرة النقد التاريخي». كان ذلك يعني بلغة أخرى انتزاع مسؤولية التأويل من رجال الدين لمصلحة الباحثين والدارسين. وما ذلك إلّا هجوم مباشر على سلطة المؤسسة الدينية الرسمية أو الأهلية. من هنا، كانت حرب رجال الدين على أبو زيد حرباً لها جناحان: البعد القانوني كان الجناح الأيمن والأشرس، لكنّ الجناح الأيسر كان المؤلفات، التي دأب على وضعها رجال على رأسهم عبد الصبور شاهين ومحمد بلتاجي وأحمد هيكل، ثم المتابعات التي تملأ شبكة الإنترنت بهدف «فضح مدى كفر» أبو زيد.
مثل كل باحث حقيقي، أدرك صاحب «نقد الخطاب الديني» أنّه لا انفصال بين الشكل والمضمون، وأنّ ذلك ينطبق على الخطاب الديني كما ينطبق على أي خطاب آخر. إذ لا تنفصل «لغة» أي خطاب عن «منطلقاته الفكرية». لقد بدا صاحب «الخطاب والتأويل» كجرّاح بارع تعرف أصابعه الشريان المقصود. وهو ما أثار غضب خصومه وحساسيتهم تجاه كل كلمة ينطق بها أو يكتبها، ولو بدت بعيدة نسبياً عن القضايا «الساخنة». ذلك أنّ مشكلتهم مع أبو زيد لم تكن مشكلة موضوع، بل مشكلة منهج. وليس ذلك جديداً. فقد واجه طه حسين المشكلة ذاتها، وواجهها كل باحث أدرك مدى عبثية الاجتهاد في سياق لا يتبع مناهج البحث العلمي الصارمة، ويتجنب، ولو موقتاً، تقديس الوقائع والأشخاص والمقولات، وخصوصاً أنّ معظم هالات «التقديس» وضعها رجال غير مقدّسين. وكانت تلك المعضلة هي أشد ما واجه أبو زيد، عند بحثه في «تاريخية النص القرآني». إذ إنّ القول بأنّ النص مقدس في اللغة لا في الرسالة فقط، هو قول مؤسس على نظام معرفي وضعه الإمام الشافعي. ورفض ذلك القول لا يعني رفض القرآن، بل نقد كلام الشافعي.
ولقد تعددت المدارس الفلسفية والدينية على مدار التاريخ الإسلامي وتعدّدت تأويلاتها للمسألة القرآنية، واختلفت تلك المدارس مراراً... لكن كان ذلك قبل العصر الذي يقدس فيه الجمهور كل شيء حتى شيوخ الفضائيات، ومن دون الإلمام بأبسط قواعد المنهج العلمي في البحث. فكيف يمكن شرح مقولات تمس المقدسات؟ وعلى رأسها مقولة أبو زيد بأن تاريخية القرآن لا تنفي ألوهيته، بل تفسّر سقوط بعض أحكام النص وبقاء البعض الآخر، وأن الوحي نظام اتصال لا يشترط أن يكون لغوياً، وأنّ اللغة البشرية هي المشترك بين كتب الوحي على اختلافها، وأن القول بأسباب النزول لا يشترط التمسك بالمعنى الفقهي للمصطلح بل ربما يعني السياق التاريخي أيضاً.
درس أبو زيد التاريخ الإسلامي، وتعرّف جيداً إلى مصائر معظم المختلفين مع أفكار السلطتين الدينية والسياسية. كما أنه عندما قدم رسالة الدكتوراه اختار ابن عربي موضوعاً لها، ربما لذلك أدرك أنّ كل بحث بلا جديد لا يعوّل عليه.