في «مباريات الجوع» التي دخلت أخيراً المكتبة العربية (الدار العربية للعلوم ناشرون)، تمجّد الكاتبة الأميركية الثروة والغنى، وتبرّر القتل الذي يبدو هنا عملاً بطولياً
حسين السكاف
ليس تأثّراً بالبريطاني هربرت جورج ويلز أو غيره ممّن كتبوا في مجال الخيال العلمي، ولا برواية «الجوع» للنروجي وصاحب «نوبل» (1920) نوت همسون... إنّ رواية «مباريات الجوع» نتاج صورة مقلقة، من أحلام كاتبة طموحة تروم الشهرة والمال، على غرار ما حظيت به جي. كي. رولينغ صاحبة سلسلة «هاري بوتر». هذا بالضبط ما تبدو عليه رواية الأميركية سوزان كولنز (1963) التي انتقلت أخيراً إلى المكتبة العربية عن «الدار العربية للعلوم ناشرون».
يخيّل للقارئ وهو يقرأ أولى صفحات «مباريات الجوع» التي صدرت في نسختها الأصلية عام 2008، أنه يقرأ عن مجتمع يعيش الماضي البعيد، «زمن ما قبل الصناعة»، إذ تتحدث عن الصيد مصدراً للقوت اليومي... لكنه سرعان ما يكتشف أنّ زمن الرواية يقع في المستقبل، وأنّ الرواية تنقسم بين مجتمعين متباينين: من جهة، الحياة البدائية التي تعيشها المقاطعة الثانية عشرة، حيث تعيش بطلة الرواية التي تعاني الفقر والجوع، إلى درجة أنّ سكّانها يتبادلون السلع بنظام المقايضة. ومن جهة أخرى، هناك الحياة في العاصمة، حيث السلطة التي تعتمد تكنولوجيا متطورة لم تكتشفها البشرية بعد، يعيش في كنفها سكّان مدينة «الكابيتول» التي هي عاصمة دولة «بانيم» المفترضة. وهذه الدولة نهضت على أنقاض مكان يدعى أميركا الشمالية التي اندثرت ـــــ حسب خيال المؤلفة ـــــ نتيجة الكوارث الطبيعية والحروب الشرسة.
الرواية تسحب القارئ إلى التعاطف مع القتلة...
ونتيجة لهذا، ظهرت «الكابيتول» على شكل مدينة تحيط بها 13 مقاطعة، عاشت برخاء فترة من الزمن إلى أن وقع تمرّد المقاطعات ضدها. هُزمت 12 مقاطعة بينما أزيلت المقاطعة الثالثة عشرة من الوجود. وعلى أثر ذلك، أبرمت «معاهدة الخيانة» التي تضمّنت قوانين جديدة لضمان السلام، ولعدم تكرار الأيام السوداء، فرضت العاصمة على المقاطعات المتمردة «مباريات الجوع».
هكذا، يتعيّن على كل مقاطعة ـــــ عقاباً على تمرّدها ـــــ أن تقدّم فتاة وفتى، يطلق على كل منهما اسم المجالد، للمشاركة في المباريات... تعمد السلطات بعد ذلك إلى حجز المجالدين الأربعة والعشرين في ميدان واسع في الهواء الطلق. ويتعيّن على المتنافسين أن يتقاتلوا حتى الموت. أما الفائز منهم، فهو آخر مجالد يبقى على قيد الحياة، وينعم بالمال والشهرة والمكانة الرفيعة... هذه ببساطة فكرة الرواية. لكنّها في الحقيقة فكرة خطرة، لكونها غارقة في دماء شخوصها، تصوّر عمليات القتل على أنها عمل بطولي، وخصوصاً لو عرفنا أنّ الرواية بنسختها الأصلية صدرت عن دار Scholastic المتخصّصة في كتب التعليم المدرسي، وأنها تخاطب فئة الأحداث والشباب من القرّاء!
صحيح أنّ الرواية تدين ظاهرياً سياسة سلطة البلد المفترض، وتصفها بأبشع أنواع الديكتاتوريات، لكونها تُصدر دوماً العديد من قرارات الموت: «تأخذ الأولاد من مقاطعاتنا، وتجبرهم على قتل بعضهم بعضاً أمام أعيننا. ويذكّرنا ذلك بمدى ضآلة نجاح أيّ ثورة جديدة قد نفكر في القيام بها»... إلا أنها في الوقت نفسه، تسحب القارئ إلى التعاطف مع القتلة، حين تتحوّل بطلة الرواية، الفتاة الصغيرة (16 عاماً)، المجاهدة لتخفيف وطأة الفقر عن عائلتها والمحبّة للحياة، إلى قاتلة شرسة «مات الفتى من المقاطعة واحد من دون أن يتمكّن من سحب رمحه، لأنّ سهمي اخترق وسط عنقه بعمق».
إنّ مشهداً مماثلاً ممّا تزدحم به الرواية، يستجدي في المقابل تعاطف القارئ للوقوف إلى جانب بطلة الرواية وابن الخبّاز، البطل الثاني، كي لا يموتا. متناسيةً أنّ الموت سيطاول 22 شاباً وشابة، بينهم من لم يتجاوز الاثني عشر عاماً، كأنّ الموت لعبة وُجدت للتسلية... ثم تذهب الكاتبة أبعد من ذلك، لتتدخّل في البنية النفسية للبطلة، فتحوّلها في خضم مخططات الموت وعمليات القتل البشعة، إلى فتاة تحلم بالفوز، لتنال الجائزة التي تنقلها من الفقر إلى الغنى (علماً بأنّها كانت رافضة لقانون «اللعبة» الذي فرضته «الكابيتول» عليها وعلى أبناء جلدتها)، وتناست تماماً أنّ فوزها لا بد من أن يكون على حساب أرواح شباب بعمرها لم يقترفوا ذنباً!
بكل تأكيد، يكون حجم الخطورة التي تسبّبها هذه الرواية وغيرها من الأعمال المكتوبة بالمزاج الأميركي «الحديث» أكبر لو تحوّلت إلى أفلام يشاهدها الملايين من الأطفال، كما تتمنّى كاتبتها. ولا ندري إن كان يحقّ لنا أن نسأل «الدار العربية للعلوم ناشرون» عن كيفية اختيار هذه الرواية لترجمتها من بين المئات من العناوين الصادرة حديثاً باللغة الإنكليزية؟