قراءة سوسيولوجيّة لخطاب الحرب الأهليّة، تقترحها الأكاديميّة والمبدعة اللبنانيّة بعد سنوات من التوثيق، تحت عنوان «ملامح النزاع: الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية» (الفرات). عودة الى بحث متعدد المشاغل يملأ فراغاً في المكتبة العربيّة...
هشام صفيّ الدين
يسيطر التاريخ السياسي المجتزأ للحرب الأهلية على الوعي الجماعي اللبناني. محطات عسكرية ومعارك ومجازر ومقولات عامة كـ«حروب الآخرين على أرضنا». أما التاريخ السوسيو ثقافي لهذه الحرب ــــ والحروب أتون لتحوّلات اجتماعية وسيكولوجية جمة ـــ فهو طيف عابر في ذاكرة للنسيان. تحاول زينة معاصري إحياء هذه الذاكرة في كتابها «ملامح النزاع: الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية» (دار الفرات) من باب الثقافة البصرية لهذه الحرب التي يمثّل الملصق السياسي أحد أهم تجلياتها. المصمّمة والأكاديمية في قسم الغرافيك في «الجامعة الأميركية في بيروت» تضيء على الأطر الجمالية والرمزية لهذه الملصقات بعد أرشفة 500 ملصق لمختلف الأحزاب السياسية في تلك الفترة. يحوي كتابها بالعربية 160 من هذه الملصقات. وتكتسب الطبعة العربية الصادرة عن «دار الفرات» رونقاً يختلف عن الطبعة الإنكليزية الأصلية الصادرة عام 2009. الطبعة العربية أكبر حجماً والملصقات أكثر عدداً وتتفرّق على فصول مختلفة عوضاً عن جمعها في جزء واحد. في هذا الأرشيف البصري الغني، يشدّك المزيج الملون لمختلف التشكيلات الغرافيكية: بورتريهات لـ«أبطال» الحرب، قبضات مرفوعة في وجه مدافع الأعداء، ورموز وشعارات تتفاوت بين الثوري والعنصري.
تتناول معاصري بعمق أسئلة نظرية وفكرية حول معنى الملصق السياسي: ارتباطه بالثقافة السياسية التي يولدها النزاع ودلالات التجربة اللبنانية بالنسبة إلى مفهوم الملصق السياسي في الفكر الثقافي العالمي. وتخلص الكاتبة الى فكرتين رئيسيتين: الأولى أنّ الملصقات ليست وليدة الدعاية السياسية (البروباغاندا) البحتة أو العمل الجماعي الاحتجاحي الملتزم. الملصقات ليست أداة قسرية للبروباغاندا (كتلك في الأنظمة الدكتاتورية) أو شكلاً بريئاً من أشكال العمل السياسي الشعبي (كما يحلو للمجتمعات الديموقراطية رؤيتها). إنها مساحة لصراع ثقافي نتيجة تفاعل الهويات السياسية والثقافية والاقتصادية للعديد من القوى المجتمعية من الأكثر تنظيماً كالأجهزة الإعلامية الى أقلها انضباطاً كعامة الناس. الملصقات إذاً أشبه بمستحجرات ثقافية تختزن الآمال والمخاوف والمعتقدات الجمعية لمختلف الفئات المشاركة في الحرب. وفي الحالة اللبنانية، لم يكن هناك قوة واحدة قادرة على فرض رؤية سياسية طاغية تولد ثنائية بين خطاب مهيمن وخطاب بديل معادٍ، ما يجعل صناعة الملصق اللبناني للحرب الأهلية تشذ عن النموذج الكلاسيكي للملصقات ذات ثنائية الخطاب المهيمن والخطاب البديل. وانتفاء هذه الثنائية في الحالة اللبنانية هو الفكرة الرئيسية الثانية.
تناقش معاصري الخلفيات السياسية والفنية لمصممي الملصقات. وهي تتعدى الأفراد لتتناول المدارس الجمالية التي انتمت إليها القوى المتحاربة. وتصنّف الملصقات ضمن أربع ثيمات رئيسية هي: الزعامة، وإحياء الذكرى، والشهادة والانتماء. تناقش معاصري ظاهرة «الزعيم» في ثقافة الحرب عبر تجلياتها في الملصقات التي تحتفي بصورة نمطية رومانسية أو تمجيدية لقادة تحولوا الى أيقونات كبشير الجميل (المقاتل الشاب) وموسى الصدر (السياسي المعمّم) وكمال جنبلاط (الاشتراكي الناسك). أما مفهوم إحياء الذكرى،

الثيمة الأكثر إشكالية هي الانتماء الذي يلامس العنصرية

فيرتبط في الملصقات بتأسيس الأحزاب (أنطون سعادة مثالاً) أو الأحداث الأكثر وقعاً في نفوس المحازبين كالمعارك. لا يرتقي القادة وحدهم الى المرتبة الرمزية في الملصق. الأفراد أيضاً يحتلون مساحة من عالم الملصقات، لكن بخلاف القائد، الموت شرط ضروري لهم لدخول الذاكرة البصرية الجمعية. وتلاحظ معاصري عوامل جمالية وتصميمية مشتركة بين الملصقات التي تخلّد الشهداء بغض النظر عن انتماءاتهم: بورتريه للشهيد مرفقة مع الاسم وزمان وفاته ومكانها.
الانتماء هو الثيمة الأكثر إشكالية لثقافة الملصقات. والانتماء لفريق هو الانتماء للفريق الآخر الذي يجب تجريده من إنسانيته وإبراز وحشيّته ودونيته. دور الثقافة العنصرية البصرية هنا يصبح محورياً يتجلى في ملصقات القوى اليمينية كـ«الجبهة اللبنانية». في أحد الملصقات، يأخذ حيّ عين الرمانة وأهله شكل بناء سكني على هيئة شخص يحمل (ينقذ؟) خريطة للبنان ويدوس على جموع غفيرة (نمليّة الحجم) يصفها الملصق بـ«القبائل العربية الهمجية».
لا ينحصر مفهوم الانتماء بأبلسة الآخر، بل يرتبط بفهم التيارات السياسية المختلفة للصراع (دفاع عن الأرض، أو الطائفة، أو المعتقد). ويمكن تعقّب التغير في المنظور الإيديولوجي للحرب (صراع طبقي، أو طائفي، أو تحريري) عبر تطور مضمون الملصق السياسي وشكله عبر الزمن. ويضفي ذلك قيمة إضافية للكتاب الذي يسمح بمقارنة الإنتاج البصري السياسي للحرب مع النتاج المعاصر للملصق السياسي اللبناني الذي شهد فورة (لا ثورة) نوعية في السنوات الأخيرة. وإذا كانت دراسة معاصري عن الملصق السياسي جعلت هذه المقارنة ممكنة، فترجمة الدراسة الى العربية لا تساعد فقط على ألا تبقى حروب اللبنانيين حرب الآخرين على أرضهم، بل تضمن ألا تصبح الذاكرة البصرية لهذه الحرب ذاكرة الآخرين أيضاً.