نواصل نشر نصوص مثقفين ومبدعين وأصدقاء، موجّهة إلى الشاعر اللبناني الذي تجاوز المرحلة الحرجة بعد حادث سير تعرّض له قبل أسبوعين. تحيّة من «الأخبار» إلى صاحب «أشقّاء ندمنا» الذي يستردّ عافيته يوماً بعد آخر

عمر شبانة*
نعم نحتاج إليك، لذا لن تذهب بعيداً كما فعل آخرون. نحتاج إليك شاعراً وناثراً وسياسياً، عرف كيف يوائم بين هذه «الأقانيم» الثلاثة. نحتاج إليك لاستئناف الحوارات التي اعتدناها في مكتبك في جريدة «السفير»، وفي بيوت بعض الأصدقاء، ليس لأنك تعبّر عن مواقفنا، بل على العكس، لأننا نختلف معك بحب وود كبيرين، ونبقى أصدقاء. لذلك نحتاج إلى اختلافنا معك، إلى رأيك المختلف معنا، وإلى شعرك الذي لم يتوقف عن التطور والتغيير والاختلاف.
عباس بيضون الذي يرقد في مشفى الجامعة الأميركية في بيروت، على أثر حادث السير المؤلم، ليس شاعراً متميزاً وحسب، وليس شاعراً مختلفاً فقط. إنه الشاعر الذي بدأ بالسياسة والحزبية بمعناهما السائد، ثم سرعان ما غادرهما إلى الفهم المستقل للمثقف الذي ينتمي إلى قضية ورؤية، ولا يتخلى عن التعبير عنهما، بصرف النظر عما إذا كانتا صحيحتين أو قابلتين للجدل والنقاش. فهو كما يعرفه القاصي والداني، شخص جدلي ودائم الاستعداد للنقاش حول أدق التفاصيل، سياسياً وثقافياً وإبداعياً. وغالباً ما تصعب مجاراته صعب على كثيرين منّا، لاتساع أفقه الثقافي في مجالات الثقافة كلها.
عبّاس نمط خاص بين من نعرفهم من المثقفين العرب. ليس بعيداً عن المبدأ الأخلاقي الشهير: «قد أختلف معك، لكنني مستعد للتضحية بنفسي دفاعاً عن حرية رأيك». كنت ألتقيه في زاوية من زوايا شارع الحمرا غالباً، فأراه ساهياً في مشيته، قليل الانتباه لمن حوله، حتى أنني أمرّ بجانبه فلا أثير انتباهه إلا إذا صرخت به «كيفك؟»، فيتوقف ليبدو أنه يعيش في عالم آخر غير عالم شارع الحمرا الذي يغصّ بالحياة والجنون. يتوقف كما يخرج شخص من تأملاته و«سرَحانه» في عوالمه الخاصة. فهو في طريقه من بيته إلى مكتبه في جريدة السفير يبدو شخصاً غائباً في فكرة ما يريد أن يكتبها في مقالته الأسبوعية، أو في قصيدته المقبلة. هذا «السرحان» كلّفه غالياً قبل أسبوعين. إنّه شاعر قليل الانتباه لما حوله، ولعلّه عبر ذلك الأوتوستراد البيروتي اللعين دونما تقدير، لتصدمه تلك السيارة... أم أن سائقاً طائشاً صدمه من دون أن يعرف أنه عباس بيضون، الشاعر الذي ترك أثراً كبيراً في الشعر العربي المعاصر، وتحديداً في قصيدة النثر العربية؟

نحتاج إلى شعرك الذي لم يتوقف عن التطور والاختلاف

شعرياً كان عباس بيضون ممن شكلوا ذاكرتنا الشعرية المختلطة. فقد فتح جيلنا الشعري، جيل الثمانينيات، عينيه على أصوات شعرية لبنانية كثيرة... وكان من أبرز أصوات قصيدة النثر، بدءاً من قصيدته «صور» التي كانت فتحاً شعرياً غير بعيد عن روح «المقاومة» ــــ مهما كان رأي الشاعر نفسه بذلك الآن. رغم الاختلاف الذي أنبأت به تلك القصيدة ــــ الديوان عن أي مرجع آخر خارجها، بل بفعل ذلك الاختلاف، كان تأثرنا بها كبيراً.
لم يختلف عباس بيضون على امتداد المراحل التي تنقل بينها، بل ظل نفسه رغم تغير المواقع: من البعث إلى الماركسية، ثم وصولاً إلى الموقف المناهض للجميع والاقتراب من «ليبراليّة» عربيّة قابلة للجدل. لقد ظل حاداً وملتزماً بموقفه المختلف والمغاير، وهو بهذا لم يجامل أحداً، واصطدم بكثيرين غير مبال بالمخاطر رغم ما تشهده الساحة اللبنانية من عنف وتوتّر.
ينبغي الاهتمام بشاعرنا الكبير الذي نتمنى له السلامة والعناية، ليعود ويكتب لنا. ليكتب في «نقد الألم» كما كتب في «صور»... وكما كتب في «لمريض هو الأمل»، و«ب ب ب»، وغيرها من النصوص التي تعتبر منهلاً ومعيناً للشعراء الجدد الذين يرسمون مسار قصيدة النثر، أو القصيدة العربية عامة. بعدما استفاق من غيبوبته، من دون أن يهجر عوالمه البيضاء، نقول لشاعرنا: جميل أنّك عدت إلينا... ما زلنا نحتاح إلى كل ما تمثّله من شعر وأفكار واختلاف.
* شاعر أردني