تقسَمُ فترة التعاون بين فيروز وزياد إلى ثلاث مراحل أساسيّة (نستثني منها الحفلات الحيّة المسَّجلة، في لندن عام 1986 وبيت الدين عام 2000). الأولى تحمل عنوان أغنية. الثانية تحمل عنوان ألبوم. والثالثة تحمل عنوان مشروع كبير.
تعود المرحلة الأولى إلى عام 1973. كان زياد الرحباني قد أنهى امتلاكه الأسرار الضرورية في الموسيقى الشرقية والغربية الكلاسيكية. قدّم على أثر ذلك تقريره الموسيقي الأول لفيروز: «سألوني الناس» (في مسرحية «المحطة» موَجَّهة إلى عاصي الذي غاب عن التحضيرات بسبب المرض). شكّلت هذه الأغنية انطلاقة قوية لِما لحق بها من أعمالٍ لم تتخطاها يوماً. إذ، كيف يمكن تخطي نغمة رشيقة مثل فراشات باخ، وفي الوقت عينه، لا تقاومها أذنٌ شرقية؟ هذه الأغنية هي أجمل ما قدّم زياد لفيروز. هذا رأي كثيرين، ورأي زياد، وفيروز أيضاً. غير أن موسيقى أغنية زياد عموماً، مقسومة إلى نصفَيْن: اللحن والتوزيع. لذا، يجب الإشارة إلى أن قمّة «سألوني الناس» مقصودٌ بها قمّة في التلحين. أما قمّة التوزيع فيصعب تحديدها. لكن يمكن الجزم بأن الألبوم الجديد سينافس «سألوني الناس» في اللحن، وقد يكتسحها وبعض الأعمال القديمة في التوزيع.
إعلان "معرفتي فيك"
بالأمس، كانت القضايا أحلاماً سامية. اليوم وغداً، ستسقط الحياة علينا عاريةً. وستبدأ قريباً المرحلة الثالثة، أو المشروع. في «وحدُن» استدعى زياد نصوصاً إضافية من مصدرَيْن. الأول يرضي «الستّ» بالتأكيد (الأخوين رحباني)، أما الثاني فيُرضي الطرفَيْن، ويتألف من جوزيف حرب وطلال حيدرأولى ثمار المرحلة الثالثة أتت عام 1987، مع صدور أسطوانة «معرفتي فيك». هنا استعان زياد بشِعر جوزيف حرب مرّة جديدة، لتأمين أكثر من نصف الألبوم لناحية الكلمة. سجّلت فيروز يومها إعلان «معرفتي فيك» بصوتها. وسجّل زياد نقطته الثمينة في مشروعه لفيروز، ما دفعه إلى تحقيق الخطوة الأكبر، أي «كيفك إنت» (1991). نتجت عن هذه الأسطوانة ظاهرة غريبة جداً، إذ سجَّلت أعلى رقمَيْن قياسَين متناقضَيْن في منطِق التسويق. إنها السلعة الأكثر انتقاداً والأكثر مبيعاً في فئتها! إنها إذاً، صورةٌ نقيةٌ عن زياد. بعد ذلك، ستشهد المرحلة الثالثة الظاهرة الأقرب إلى «كيفك إنت»، لكن لسببٍ مختلف، ونقصد «إلى عاصي». في «كيفك إنت» كانت الكلمة سبب المشكلة. في «إلى عاصي» ظهر وجهٌ جديدٌ لـ «المخرّب»، أي، زياد الموزِّع الموسيقيّ.
اعتاد بعض الناس على الموضوع. وطالب البعض الآخر بالمزيد. لكنّ زياد سيفاجئ الجميع بخطوة أبعد، لناحية الكلمة هذه المرّة. إذ، لم يقنع فيروز بأداء «مش كاين هيك تكون» (1999) فحسب، بل ستعطي هذه الأغنية عنوانها لألبومٍ، وستأتي ألحان الفنان الراحل محمد محسن «لتخفف من حدّته» في نظر المحافظين. بعد حوالي سنتَيْن صدر ألبوم «... ولا كيف» حاملاً بُعدَيْن مهمَّين. الأول، يبيِّن أن الرحباني لم يتنازل عن مشروعه، وأن الجمهور اقتنع جدياً بهذا المشروع. والثاني، تقني، ويتمثّل، بالنقلة النوعية لناحية التنفيذ الموسيقي والتسجيل اللذين عانى زياد من إدارتهما في السابق على طريقة «بالتي هي أحسن» (بالنسبة إلى رؤيته المتطلِّبة في المجاليْن). أمّا آخر الغيث، فانتظرناه طويلاً، مردّدين «إيه في أمل».
في كل ذلك، أمرٌ عبثي واحد. لقد هاجم جزءٌ من الجمهور زياد، مستنداً إلى أعمال الرحابنة. الغريب، أن مِن بين هذه الأعمال، تلك التي قد يظن من يسمعها للمرّة الأول أنها بريشة زياد، نصاً وموسيقى. والغريب أيضاً أن الأغنية التي تعتبَر شرارة انطلاق مشروع زياد (أغنية «البوسطة»)، يقال إنها كانت الأحب إلى قلب عاصي. أمّا أغرَب الأمرَيْن فهو الانتقاد المستمر لـ «مش كاين هيك تكون» (الأغنية)، وتحديداً كلماتها. ألا تنضح كل كلمة في هذه الأغنية بعلامات الأسى على زمن الأخوين؟ ألم يتأسف زياد هنا على كلّ ما لم يعُد موجوداً ممّا تمحورت حوله أعمال الرحابنة؟ نسينا أغنية قديمة. إنها «الأرض لكم» التي سيضمّا الألبوم الجديد.
بشير...
أبدع زياد في صناعة الأغنية الشعبية. لكنه منذ الصغر بدا مسكوناً بهاجس الموسيقى الآلاتية، حيث الكلمة للموسيقى فقط. غير أنّ الرحباني الابن كان يعرف جيّداً أن المستمعين – وبالتالي المنتجين – لا يكترثون لغير الأغنية. لذا راح يهرِّب موسيقاه تحت عباءة فيروز في الألبومات (والحفلات) التي وضعها لها. حصل ذلك في «معرفتي فيك» («مقدِّمة 84» وهي نسخة معدَّلة جينيّاً لـ«مقدمة 83»)، وفي «كيفك إنت» («مقدِّمة 87» و«ضيعانو»، وأيضاً «يا ليلي ليلي ليلي»)، وفي «مش كاين هيك تكون» («وقمح...»)، وأخيراً في «إيه في أمل» («ديار بكر» و«تلّ الزعتر»).
"صبحي الجيز" بصوت فيروز