فائق حميصي... ملائكة فوق بيروتحسين بن حمزة
في «كل هذا الإيماء»، يستثمر فائق حميصي عنوان الفيلم الأميركي الشهير «كل هذا الجاز»، ليقدّم نوعاً من الخلاصة لتجربته الطويلة في فن الإيماء. ارتبط اسم حميصي بالإيماء اللبناني، حتى كاد يساويه في ذاكرتنا. صحيح أنّ ممثلين ومخرجين غيره (وهم قلة على أي حال) اشتغلوا في هذا النوع المسرحي، إلا أنّه الوحيد الذي استمر بقوّة الإيماء وحده. فبعد تجربة تأسيسية مع موريس معلوف في «فدعوس يكتشف بيروت» (1972)، سافر حميصي إلى فرنسا لاستكمال دراسته، وعاد لتقديم عروض خاصة به، رسّخت هويته الإيمائية، وجعلتها صفة ملازمة لشغله. هكذا، توالى حضور مفردة الإيماء في خمسة عروض قدمت أعوام: 79 و81 و83 و86 و88.
استغرق حميصي في الإيماء حتى حوّله إلى فنّ شخصي. صوّر حلقات إيمائية للتلفزيون. مثّل في مسلسلات تلفزيونية عادية، لكنّ التعبير الإيمائي لم يغب عن ملامحه وحركته الجسدية. لاحقه طيف مارسيل مارسو، الإيمائي الفرنسي الأشهر، حتى عام 1983، حين قرّر تقديم أعمال لا تعتمد على فكرة أن يتألف العرض من مشاهد ولوحات منفصلة، أو أن تكون الكوميديا بطلة مطلقة لها. بطريقة ما، حاول حميصي أن يصنع هوية محلية للإيماء، مشجعاً طلابه على تذويب ما تعلموه في مسرح أشمل، وهو ما رأيناه في عروض من توقيع وتمثيل عايدة صبرا، وزكي محفوض، وعصام بو خالد، وفادي أبي سمرا... وأخيراً خلود ناصر.
صبرا ومحفوض، اللذان شاركا في عروض الثمانينيات، يشاركان في العرض الجديد الذي يروي حكاية رجل (فائق حميصي)، يستعيد أجزاءً من شريط حياته قبل أن يلفظ الروح. بدأ العمل من فكرة أشلاء ضحايا الحروب والكوارث، وجرى التركيز على الأيدي لأنّها الأكثر قابلية لنقل الأفكار من دون استخدام اللغة العادية. الأيدي تتحرك خلف قماشة سوداء تمثل حائط الأبدية، ويتحرك الرجل المحتضر في مقدمة الخشبة، بينما تعرض الشاشة المثبتة في الأعلى مشاهد لمجازر وقتلى، مخلوطة بصور لراحلين ومشاهير لبنانيين وأجانب. ينتهي الشريط في اللحظة التي تخترق فيها الأيدي قماشة الحائط، فتبدو كأنها أيدي من رأيناهم على الشاشة. علينا أن نصدق أن مجتمعاً كاملاً للموتى يتكوّن خلف الحائط، بينما تجري في أعلاه حياة إيمائية للأصابع والأيدي.
يُحضَر الرجل الموصول بأمصال طبية على كرسي مدولب، فتتوقَّف الأيدي عن الحركة والأصوات غير المفهومة. يلعب الإخراج على صراع يتمثل في جرّ الرجل إلى مجتمع الموتى. في الأثناء، يُستثمر الموتى أنفسهم كي يترجموا محطات من ذاكرة الرجل. سنرى رقصاً شرقياً (جمال كريّم) ورقصاً هندياً (هاني الخطيب) وباليه (عايدة صبرا)،

حكاية رجل يستعيد شريط حياته قبل أن يلفظ الروح
بينما يتولى قائدهم بالزي العسكري (زكي محفوض) مهمّة إدارة مجتمع الأيدي خلف الحائط وأمامه. تتناقص فرص الرجل في البقاء حياً، مع استمرار محاولات الموتى لإدخاله إلى عالمهم. الجديّة التي تتجلى في فكرة الحروب والقتل، تفقد الكثير من قسوتها لمصلحة الأداء الإيمائي الذي يُضحكنا أحياناً، أو يثير إعجابنا بتقنياته الجسدية والتعبيرية، وخصوصاً في المشهدين اللذين يجمعان حميصي وصبرا معاً. تدور بينهما منافسة إيمائية جذابة، تذكِّرنا بمشاهد مؤثرة رأيناها للاثنين في أعمال سابقة. تؤدي صبرا دوري ملاك الحب والموت، وتفشل مرتين قبل أن يخسر الرجل حياته، وينضمّ إلى عالم الأشلاء في مشهد ختامي، أُريد له أن يبدو مثل حفل زفاف.
ما نراه من مفارقات مضحكة لن يُنسينا الخلفية الفكرية للعرض، لكننا سنشاهد عرضاً مسرحياً يسجِّل فيه فائق حميصي عودة متأخرة ومحمودة إلى عالمه الأثير بعد سنوات طويلة من الانقطاع. هكذا، نتأكد أن الإيماء اللبناني الذي بدأ بفائق حميصي لا يزال مسجلاً باسمه. يغيب بغيابه، ويحضر بحضوره. كأن الإيماء يتيمُ مسرحنا الراهن.


«كل هذا الإيماء»: 8:00 مساء اليوم، وحتّى 14 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري ــــ «مسرح بيروت» (عين المريسة). للاستعلام: 01/363328